الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا

تفريع على قوله ( يوفون بالنذر ) إلى ( قمطريرا ) .

وفي هذا التفريع تلوين للحديث عن جزاء الأبرار وأهل الشكور ، وهذا برزخ للتخلص إلى عود الكلام على حسن جزائهم أن الله وقاهم شر ذلك اليوم وهو [ ص: 388 ] الشر المستطير المذكور آنفا ، وقاهم إياه جزاء على خوفهم إياه وأنه لقاهم نضرة وسرورا جزاء على ما فعلوا من خير .

وأدمج في ذلك قوله ( بما صبروا ) الجامع لأحوال التقوى والعمل الصالح كله لأن جميعه لا يخلو عن تحمل النفس لترك محبوب أو فعل ما فيه كلفة ، ومن ذلك إطعام الطعام على حبه .

ولقاهم معناه : جعلهم يلقون نضرة وسرورا ، أي جعل لهم نضرة وهي حسن البشرة ، وذلك يحصل من فرح النفس ورفاهية العيش قال تعالى ( وجوه يومئذ ناضرة ) فمثل إلقاء النضرة على وجوههم بزج أحد إلى لقاء أحد على طريقة التمثيل .

وضمير الغائبة و ( نضرة ) مفعولا ( لقى ) من باب كسا .

وبين ( وقاهم ) و ( لقاهم ) الجناس المحرف .

وجملة ( وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا ) ، عطف على جملة " فوقاهم " وجملة " ولقاهم " لتماثل الجمل الثلاث في الفعلية والمضي وهما محسنان من محسنات الوصل .

والحرير : اسم لخيوط من مفرزات دودة مخصوصة ، وتقدم الكلام عليه في سورة فاطر .

وكان الجزاء برفاهية العيش إذ جعلهم في أحسن المساكن وهو الجنة ، وكساهم أحسن الملابس وهو الحرير الذي لا يلبسه إلا أهل فرط اليسار ، فجمع لهم حسن الظرف الخارج وحسن الظرف المباشر وهو اللباس .

والمراد بالحرير هنا : ما ينسج منه .

ومتكئين : حال من ضمير الجمع في جزاهم ، أي هم في الجنة متكئون على الأرائك .

والاتكاء : جلسة بين الجلوس والاضطجاع يستند فيها الجالس على مرفقه وجنبه ويمد رجليه وهي جلسة ارتياح ، وكانت من شعار الملوك وأهل البذخ ، ولهذا قال [ ص: 389 ] النبيء - صلى الله عليه وسلم - أما أنا فلا آكل متكئا وتقدم ذلك في سورة يوسف عند قوله تعالى ( وأعتدت لهن متكأ ) .

والأرائك : جمع أريكة بوزن سفينة . والأريكة : سرير عليه وسادة معها ستر وهو حجلته ، والحجلة بفتحتين وبتقديم الحاء المهملة على الجيم : كلة تنصب فوق السرير لتقي الحر والشمس ، ولا يسمى السرير أريكة إلا إذا كان معه حجلة .

وقيل : كل ما يتوسد ويفترش مما له حشو يسمى أريكة وإن لم تكن له حجلة ، وفي الإتقان عن ابن الجوزي : أن الأريكة السرير بالحبشية فزاده السيوطي على أبيات ابن السبكي وابن حجر في جمع المعرب في القرآن .

وجملة ( لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا ) حال ثانية من ضمير الغائب في ( جزاهم ) أو صفة ( جنة ) .

والمراد بالشمس : حر أشعتها ، فنفى رؤية الشمس في قوله ( لا يرون فيها شمسا ) فيكون نفي رؤية الشمس كناية عن نفي وجود الشمس الذي يلزمه انتفاء حر شعاعها فهو من الكناية التلويحية كقوله :


ولا ترى الضب بها ينجحر

أي لا ضب بها فتراه ولا يكون انجحاره .

والزمهرير : اسم للبرد القوي في لغة الحجاز ، والزمهرير : اسم البرد .

والمعنى : أن هواء الجنة معتدل لا ألم فيه بحال . وفي كلام الرابعة من نساء حديث أم زرع " زوجي كليل تهامه ، لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمه " .

وقال ثعلب : الزمهرير اسم القمر في لغة طيء ، وأنشد :


وليلة ظلامها قد اعـتـكـر     قطعتها والزمهرير ما زهر

والمعنى على هذا : أنهم لا يرون في الجنة ضوء الشمس ولا ضوء القمر ، أي ضوء النهار وضوء الليل لأن ضياء الجنة من نور واحد خاص بها . وهذا معنى آخر غير نفي الحر والبرد .

ومن الناس من يقول : المراد بالشمس حقيقتها وبالزمهرير البرد وإن في الكلام [ ص: 390 ] احتباكا ، والتقدير : لا يرون فيها شمسا ولا قمرا ولا حرا ولا زمهريرا وجعلوه مثالا للاحتباك في المحسنات البديعية ، ولعل مراده : أن المعنى أن نورها معتدل وهواءها معتدل .

( ودانية عليهم ظلالها ) انتصب " دانية " عطفا على " متكئين " لأن هذا حال سببي من أحوال المتكئين ، أي ظلال شجر الجنة قريبة منهم . وظلالها فاعل دانية وضمير ظلالها عائد إلى جنة .

ودنو الظلال : قربها منهم وإذ لم يعهد وصف الظل بالقرب يظهر أن دنو الظلال كناية عن تدلي الأدواح التي من شأنها أن تظلل الجنات في معتاد الدنيا ولكن الجنة لا شمس فيها فيستظل من حرها ، فتعين أن تركيب ( دانية عليهم ظلالها ) مثل يطلق على تدلي أفنان الجنة لأن الظل المظلل للشخص لا يتفاوت بدنو ولا بعد ، وقد يكون ظلالها مجازا مرسلا عن الأفنان بعلاقة اللزوم .

والمعنى : أن أدواح الجنة قريبة من مجالسهم وذلك مما يزيدها بهجة وحسنا وهو في معنى قوله تعالى ( قطوفها دانية ) .

ولذلك عطف عليه جملة ( وذللت قطوفها تذليلا ) ، أي سخرت لهم قطوف تلك الأدواح وسهلت لهم بحيث لا التواء فيها ولا صلابة تتعب قاطفها ولا يتمطون إليها بل يجتنونها بأسهل تناول .

فاستعير التذليل للتيسير كما يقال : فرس ذلول : أي مطواع لراكبه ، وبقرة ذلول ، أي ممرنة على العمل ، وتقدم في سورة البقرة .

والقطوف : جمع قطف بكسر القاف وسكون الطاء ، وهو العنقود من التمر أو العنب ، سمي قطفا بصيغة من صيغ المفعول مثل ذبح ، لأنه يقصد قطفه فإطلاق القطف عليه مجاز باعتبار المآل شاع في الكلام . وضمير " قطوفها " عائد إلى جنة أو إلى ظلالها باعتبار الظلال كناية عن الأشجار .

و " تذليلا " مصدر مؤكد لذلك ، أي تذليلا شديدا منتهيا .

التالي السابق


الخدمات العلمية