الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ومن كانت داره فوق الميقات فله أن يحرم من الميقات ، وله أن يحرم من فوق الميقات ، لما روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما قالا : " إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك " وفي الأفضل ( أحدهما ) أن الأفضل أن يحرم من الميقات ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم من ذي الحليفة ، ولم يحرم من المدينة ، ولأنه إذا أحرم من بلده لم يأمن أن يرتكب محظورات الإحرام ، وإذا أحرم من الميقات أمن ذلك . فكان الإحرام من الميقات أفضل ، ( والثاني ) أن الأفضل أن يحرم من داره ، لما روت أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، ووجبت له الجنة } ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث إحرام النبي صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة صحيح مشهور مستفيض رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من رواية جماعة من الصحابة ( وأما ) حديث أم سلمة فرواه أبو داود وابن ماجه والبيهقي وآخرون ، وإسناده ليس بالقوي ( وأما ) الأثر عن عمر وعلي [ ص: 205 ] رضي الله عنهما فرواه الشافعي وغيره بإسناد قوي ( واعلم ) أنه وقع في المهذب في حديث أم سلمة { وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ووجبت له الجنة } بالواو ، وكذا وقع في أكثر كتب الفقه والصواب " أو وجبت " بأو وهو شك من عبد الله بن عبد الرحمن بن يحنس أحد رواته ، هكذا هو بأو في كتب الحديث ، وصرحوا بأن ابن يحنس هو الذي شك فيه ، ويحنس - بمثناة من تحت مضمومة ثم حاء مهملة مفتوحة ثم نون مكسورة ومفتوحة ثم سين مهملة . أما أحكام الفصل فأجمع من يعتد به من السلف والخلف من الصحابة فمن بعدهم على أنه يجوز الإحرام من الميقات ومما فوقه ، وحكى العبدري وغيره عن داود أنه قال : لا يجوز الإحرام مما فوق الميقات وأنه لو أحرم مما قبله لم يصح إحرامه ويلزمه أن يرجع ويحرم من الميقات ، وهذا الذي قاله مردود عليه بإجماع من قبله ، ( وأما ) الأفضل ففيه قولان للشافعي مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما : ( أحدهما ) الإحرام من الميقات أفضل ، ( والثاني ) مما فوقه أفضل وهذان القولان مشهوران في طريقتي العراق وخراسان وفي المسألة طريق آخر : وهو أن الإحرام أفضل من دويرة أهله قولا واحدا ، وهي قول القفال وهي مشهورة في كتب الخراسانيين ، وهي ضعيفة غريبة والصحيح المشهور أن المسألة على القولين ثم إن هذين القولين منصوصان في الجديد نقلهما الأصحاب عن الجديد : ( أحدهما ) الأفضل أن يحرم من دويرة أهله نص عليه في الإملاء ، ( والثاني ) الأفضل الإحرام من الميقات نص عليه في البويطي والجامع الكبير للمزني .

                                      ( وأما ) الغزالي فقال في الوسيط : لو أحرم قبل الميقات فهو أفضل ، قطع به في القديم ، وقال في الجديد : هو مكروه وهو متأول ، ومعناه أن [ ص: 206 ] يتوقى المخيط والطيب من غير إحرام ، وكذا نقل الفوراني في الإبانة أنه كره في الجديد الإحرام قبل الميقات ، وكأن الغزالي تابع الفوراني في هذا النقل ، وهو نقل ضعيف غريب لا يعرف لغيرهما ، ونسبه صاحب البحر إلى بعض أصحابنا بخراسان ، والظاهر أنه أراد الفوراني ، ثم قال صاحب البحر : هذا النقل غلط ظاهر ، وهذا الذي قاله صاحب البحر من التغليط هو الصواب ، فإن الذي كرهه الشافعي في الجديد أنه هو التجرد عن المخيط لا الإحرام قبل الميقات ، بل نص في الجديد على الإنكار على من كره الإحرام قبل الميقات . واختلف أصحابنا في الأصح من هذين القولين فصححت طائفة الإحرام من دويرة أهله ، ممن صرح بتصحيحه القاضي أبو الطيب في كتابه المجرد والروياني في البحر والغزالي والرافعي في كتابيه وصحح الأكثرون والمحققون تفضيل الإحرام من الميقات ممن صححه المصنف في التنبيه وآخرون ، وقطع به كثيرون من أصحاب المختصرات ، منهم أبو الفتح سليم الرازي في الكفاية ، والماوردي في الإقناع ، والمحاملي في المقنع ، ، وأبو الفتح نصر المقدسي في الكافي ، وغيرهم ، وهو الصحيح المختار ، وقال الرافعي : في المسألة ثلاث طرق : ( أصحها ) على قولين ، ( والثاني ) القطع باستحبابه من دويرة أهله ، ( والثالث ) أن من [ خشي ] على نفسه من ارتكاب محظورات الإحرام فدويرة أهله أفضل ، وإلا فالميقات .

                                      ( والأصح ) على الجملة أن الإحرام من الميقات أفضل ، للأحاديث الصحيحة المشهورة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم في حجته من الميقات } وهذا مجمع عليه ، وأجمعوا على أنه صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد وجوب الحج ولا بعد الهجرة غيرها { وأحرم صلى الله عليه وسلم عام الحديبية بالعمرة من ميقات المدينة ذي الحليفة } رواه البخاري في صحيحه في كتاب المغازي ، وكذلك أحرم معه صلى الله عليه وسلم بالحجة المذكورة والعمرة المذكورة أصحابه من الميقات ، وهكذا فعل بعده صلى الله عليه وسلم [ ص: 207 ] أصحابه والتابعون وجماهير العلماء ، وأهل الفضل ، فترك النبي صلى الله عليه وسلم الإحرام من مسجده الذي صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام ، وأحرم من الميقات فلا يبقى بعد هذا شك في أن الإحرام من الميقات أفضل .

                                      ( فإن قيل ) : إنما أحرم النبي صلى الله عليه وسلم من الميقات ليبين جوازه ، ( فالجواب ) من أوجه : ( أحدهما ) أنه صلى الله عليه وسلم قد بين الجواز بقوله صلى الله عليه وسلم : { مهل أهل المدينة من ذي الحليفة } ، ( الثاني ) أن بيان الجواز إنما يكون فيما يتكرر فعله ، ففعله صلى الله عليه وسلم مرة أو مرات يسيرة على أقل ما يجزئ بيانا للجواز ، ويداوم في عموم الأحوال على أكمل الهيئات ، كما توضأ مرة مرة في بعض الأحوال ، وداوم على الثلاث ، ونظائر هذا كثيرة ، ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم أحرم من المدينة ، وإنما أحرم بالحج وعمرة الحديبية من ذي الحليفة ( الثالث ) أن بيان الجواز إنما يكون في شيء اشتهر أكمل أحواله بحيث يخاف أن يظن وجوبه ، ولم يوجد ذلك هنا . وهذا كله إنما يحتاج إليه على تقدير دليل صريح صحيح في مقابلته ولم يوجد ذلك ، فإن حديث أم سلمة قد سبق أن إسناده ليس بقوي ، فيجاب عنه بأربع أجوبة : ( أحدها ) أن إسناده ليس بقوي ، ( الثاني ) أن فيه بيان فضيلة الإحرام من فوق الميقات ، وليس فيه أنه أفضل من الميقات ، ولا خلاف أن الإحرام من فوق الميقات فيه فضيلة ، وإنما الخلاف أيهما أفضل ؟ ( فإن قيل ) : هذا الجواب يبطل فائدة تخصيص المسجد الأقصى ، ( فالجواب ) أن فيه فائدة ، وهي تبيين قدر الفضيلة فيه ، ( الجواب الثالث ) أن هذا معارض لفعله صلى الله عليه وسلم المتكرر في حجته وعمرته ، فكان فعله المتكرر أفضل ، ( الرابع ) أن هذه الفضيلة جاءت في المسجد الأقصى لأن له مزايا عديدة معروفة ، ولا يوجد ذلك في غيره فلا يلحق به ، والله أعلم .

                                      [ ص: 208 ] فرع ) في مذاهب العلماء في هذه المسألة . قد ذكرنا أن الأصح أن يحرم من الميقات ، وبه قال عطاء والحسن البصري ومالك وأحمد وإسحاق وروي عن عمر بن الخطاب حكاه ابن المنذر عنهم كلهم ، ورجح آخرون دويرة أهله المشهور عن عمر وعلي وبه قال أبو حنيفة وحكاه ابن المنذر عن علقمة والأسود وعبد الرحمن وأبي إسحاق يعني السبيعي - ودليل الجميع سبق بيانه ، قال ابن المنذر : وثبت أن ابن عمر أهل من إيليا وهو بيت المقدس .



                                      ( فرع ) إن قيل : ما الفرق بين ميقات الزمان والمكان ؟ حيث جاز تقديم الإحرام على ميقات المكان دون الزمان ؟ فالجواب ما أجاب به الجرجاني ، في المعاياة أن ميقات المكان يختلف باختلاف البلاد ، بخلاف ميقات الزمان ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية