الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ومن كان من أهل مكة وأراد الحج فميقاته من مكة ، وإن أراد العمرة فميقاته من أدنى الحل ، والأفضل أنه من الجعرانة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر منها ، فإن أخطأها فمن التنعيم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعمر عائشة من التنعيم ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) أما { إحرام النبي صلى الله عليه وسلم من الجعرانة } فصحيح متفق عليه ، رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه ورواه الإمام الشافعي وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم أيضا من رواية مخرش الكعبي الخزاعي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الترمذي : هذا حديث حسن ، قال : ولا يعرف له عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث ، وهو محرش - بضم الميم وفتح الحاء وكسر الراء المشددة وبعدها شين معجمة - هذا أشهر الأقوال في ضبطه ، ولا يذكر ابن ماكولا وجماعة إلا هذا ، ( والثاني ) محرش - بكسر الميم وإسكان المهملة ( والثالث ) بكسر الميم وإسكان الخاء المعجمة - ممن حكى هذه الأقوال الثلاثة فيه أبو عمر عبد الله بن يوسف بن عبد البر ، والله أعلم .

                                      ( وأما ) حديث { أن النبي صلى الله عليه وسلم أعمر عائشة من التنعيم } فرواه البخاري ومسلم من رواية عائشة وأما الجعرانة - فبكسر الجيم وإسكان العين وتخفيف الراء - وكذا الحديبية بتخفيف الياء هذا قول الشافعي فيهما ، وبه قال أهل اللغة والأدب وبعض المحدثين ، وقال [ ص: 211 ] ابن وهب صاحب مالك : هما بالتشديد ، وهو قول أكثر المحدثين ، والصحيح تخفيفهما ، والتنعيم أقرب أطراف الحل إلى مكة ، والتنعيم - بفتح التاء - وهو بين مكة والمدينة على ثلاثة أميال من مكة وقيل : أربعة قيل : سمي بذلك لأن عن يمينه جبلا يقال له : نعيم ، وعن شماله جبل يقال له ناعم ، والوادي نعمان . أما الأحكام ففيه مسألتان : ( إحداهما ) ميقات المكي بالحج نفس مكة ، وفيه وجه ضعيف أنه مكة وسائر الحرم ، وقد سبقت المسألة في أول الباب واضحة بفروعها والمراد بالمكي من كان بمكة عند إرادة الإحرام بالحج سواء كان مستوطنها أو عابر سبيل



                                      ( المسألة الثانية ) إذا كان بمكة مستوطنا أو عابر سبيل وأراد العمرة فميقاته أدنى الحل ، نص عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب ، قال أصحابنا : يكفيه الحصول في الحل ولو بخطوة واحدة من أي الجهات كان جهات الحل ، هذا هو الميقات الواجب .

                                      ( وأما ) المستحب فقال الشافعي في المختصر : أحب أن يعتمر من الجعرانة لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر منها فإن أخطأه منها فمن التنعيم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعمر عائشة منها وهي أقرب الحل إلى البيت ، فإن أخطأه ذلك فمن الحديبية ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بها ، وأفضلها من الجعرانة وبعدها في الفضيلة التنعيم ثم الحديبية كما نص عليه ، واتفق الأصحاب على التصريح بهذا في كل الطرق ولا خلاف في شيء منه لأن الشيخ أبا حامد قال : الذي يقتضيه المذهب أن الاعتمار من الحديبية بعد الجعرانة أفضل من التنعيم ، فقدم الحديبية على التنعيم .

                                      ( وأما ) قول المصنف في التنبيه : الأفضل أن يحرم بها من التنعيم فغلط ومنكر لا يعد من المذهب إلا أن يتأول على أنه إذا أراد أفضل أدنى الحل التنعيم ، فإنه قال أولا : خرج إلى أدنى الحل ، والأفضل أن يحرم من التنعيم ، فالاعتذار عنه بهذا وما أشبهه أحسن من تخطئته ، وليست [ ص: 212 ] المسألة خفية أو غريبة ليعذر في الغلط فيها ، واستدل ، الشافعي للإحرام من الحديبية بعد التنعيم بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بها وأراد المدخل لعمرته منها ، وهذا صحيح معروف في الصحيحين وغيرهما ، وكذلك استدل محققو الأصحاب . وهذا الاستدلال هو الصواب .

                                      ( وأما ) قول الغزالي في البسيط ، وقول غيره : إنه صلى الله عليه وسلم هم بالإحرام بالعمرة من الحديبية فغلط صريح ، بل ثبت في صحيح البخاري في كتاب المغازي { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم بالعمرة عام الحديبية من ذي الحليفة } والله أعلم .

                                      ( فإن قيل ) : قال الشافعي والأصحاب : إن الإحرام بالعمرة من الجعرانة أفضل من التنعيم ، فكيف أعمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة من التنعيم ؟ ( فالجواب ) أنه صلى الله عليه وسلم إنما أعمرها منه لضيق الوقت عن الخروج إلى أبعد منه ، وقد كان خروجها إلى التنعيم عند رحيل الحاج وانصرافهم ، وواعدها النبي صلى الله عليه وسلم إلى موضع في الطريق ، هكذا ثبت في الصحيحين ، ويحتمل أيضا بيان الجواز من أدنى الحل ، والله أعلم . .



                                      ( فرع ) يستحب لمن أراد الإحرام بالحج من مكة أن يحرم يوم التروية وهو الثامن من ذي الحجة ، ولا يقدم الإحرام قبله إلا أن يكون متمتعا لم يجد الهدي ، فيحرم قبل اليوم السادس ، من ذي الحجة حتى يمكنه صوم ثلاثة أيام في الحج ، وقد سبقت المسألة مبسوطة في أواخر الباب السابق في أحكام التمتع في فرع مستقل ، وذكرنا فيه مذاهب العلماء ودليل المسألة .




                                      الخدمات العلمية