الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون

                                                                                                                                                                                                                                        (128) يقول تعالى: ويوم يحشرهم جميعا أي: جميع الثقلين، من الإنس والجن، من ضل منهم، ومن أضل غيره، فيقول موبخا للجن الذين أضلوا الإنس، وزينوا لهم الشر، وأزوهم إلى المعاصي: يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس أي: من إضلالهم، وصدهم عن سبيل الله، فكيف أقدمتم على محارمي، وتجرأتم على معاندة رسلي؟ وقمتم محاربين لله، ساعين في صد عباد الله عن سبيله إلى سبيل الجحيم؟

                                                                                                                                                                                                                                        فاليوم حقت عليكم لعنتي، ووجبت لكم نقمتي وسنزيدكم من العذاب بحسب كفركم، وإضلالكم لغيركم. وليس لكم عذر به تعتذرون، ولا ملجأ إليه تلجئون، ولا شافع يشفع ولا دعاء يسمع، فلا تسأل حينئذ عما يحل بهم من النكال، والخزي والوبال، ولهذا لم يذكر الله لهم اعتذارا، وأما أولياؤهم من الإنس، فأبدوا عذرا غير مقبول فقالوا: ربنا استمتع بعضنا ببعض أي: تمتع كل من الجني والإنسي بصاحبه، وانتفع به.

                                                                                                                                                                                                                                        فالجني يستمتع بطاعة الإنسي له وعبادته، وتعظيمه، واستعاذته به. والإنسي يستمتع بنيل أغراضه، وبلوغه بسبب خدمة الجني له بعض شهواته، فإن الإنسي يعبد الجني، فيخدمه الجني، ويحصل له منه بعض الحوائج الدنيوية، أي: حصل منا من الذنوب ما حصل، ولا يمكن رد ذلك، وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا أي: وقد وصلنا المحل الذي نجازى فيه بالأعمال، فافعل بنا الآن ما تشاء، واحكم فينا بما تريد، فقد انقطعت حجتنا ولم يبق لنا عذر، والأمر أمرك، والحكم حكمك. وكأن في هذا الكلام منهم نوع تضرع وترقق، ولكن في غير أوانه. ولهذا حكم فيهم بحكمه العادل، الذي لا جور فيه، فقال: النار مثواكم خالدين فيها .

                                                                                                                                                                                                                                        ولما كان هذا الحكم من مقتضى حكمته وعلمه، ختم الآية بقوله: إن ربك حكيم عليم فكما أن علمه وسع الأشياء [ ص: 510 ] كلها وعمها، فحكمته الغائية شملت الأشياء وعمتها ووسعتها.

                                                                                                                                                                                                                                        (129) وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون أي: وكما ولينا الجن المردة وسلطناهم على إضلال أوليائهم من الإنس وعقدنا بينهم عقد الموالاة والموافقة، بسبب كسبهم وسعيهم بذلك.

                                                                                                                                                                                                                                        كذلك من سنتنا أن نولي كل ظالم ظالما مثله، يؤزه إلى الشر ويحثه عليه، ويزهده في الخير وينفره عنه، وذلك من عقوبات الله العظيمة الشنيع أثرها، البليغ خطرها.

                                                                                                                                                                                                                                        والذنب ذنب الظالم، فهو الذي أدخل الضرر على نفسه، وعلى نفسه جنى وما ربك بظلام للعبيد ومن ذلك، أن العباد إذا كثر ظلمهم وفسادهم، ومنعهم الحقوق الواجبة، ولى عليهم ظلمة، يسومونهم سوء العذاب، ويأخذون منهم بالظلم والجور أضعاف ما منعوا من حقوق الله، وحقوق عباده، على وجه غير مأجورين فيه ولا محتسبين.

                                                                                                                                                                                                                                        كما أن العباد إذا صلحوا واستقاموا، أصلح الله رعاتهم، وجعلهم أئمة عدل وإنصاف، لا ولاة ظلم واعتساف.

                                                                                                                                                                                                                                        (130) ثم وبخ الله جميع من أعرض عن الحق ورده، من الجن والإنس، وبين خطأهم، فاعترفوا بذلك، فقال:

                                                                                                                                                                                                                                        يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي الواضحات البينات، التي فيها تفاصيل الأمر والنهي، والخير والشر، والوعد والوعيد.

                                                                                                                                                                                                                                        وينذرونكم لقاء يومكم هذا ويعلمونكم أن النجاة فيه، والفوز إنما هو بامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، وأن الشقاء والخسران في تضييع ذلك، فأقروا بذلك واعترفوا، ف قالوا بلى شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا بزينتها وزخرفها، ونعيمها فاطمأنوا بها ورضوا، وألهتهم عن الآخرة، وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين فقامت عليهم حجة الله، وعلم حينئذ كل أحد، حتى هم بأنفسهم عدل الله فيهم، فقال لهم: حاكما عليهم بالعذاب الأليم: ادخلوا في جملة أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس صنعوا كصنيعكم، واستمتعوا بخلاقهم كما استمعتم، وخاضوا بالباطل كما خضتم، إنهم كانوا خاسرين، أي: الأولون من هؤلاء والآخرون، وأي خسران أعظم من خسران جنات النعيم، وحرمان جوار أكرم الأكرمين؟! [ ص: 511 ] (132) ولكنهم وإن اشتركوا في الخسران، فإنهم يتفاوتون في مقداره تفاوتا عظيما.

                                                                                                                                                                                                                                        ولكل منهم درجات مما عملوا بحسب أعمالهم، لا يجعل قليل الشر منهم ككثيره، ولا التابع كالمتبوع، ولا المرءوس كالرئيس، كما أن أهل الثواب والجنة وإن اشتركوا في الربح والفلاح ودخول الجنة، فإن بينهم من الفرق ما لا يعلمه إلا الله، مع أنهم كلهم، قد رضوا بما آتاهم مولاهم، وقنعوا بما حباهم.

                                                                                                                                                                                                                                        فنسأله تعالى أن يجعلنا من أهل الفردوس الأعلى، التي أعدها الله للمقربين من عباده، والمصطفين من خلقه، وأهل الصفوة من أهل وداده.

                                                                                                                                                                                                                                        وما ربك بغافل عما يعملون فيجازي كلا بحسب علمه، وبما يعلمه من مقصده.

                                                                                                                                                                                                                                        (133) وإنما أمر الله العباد بالأعمال الصالحة، ونهاهم عن الأعمال السيئة، رحمة بهم، وقصدا لمصالحهم. وإلا فهو الغني بذاته، عن جميع مخلوقاته، فلا تنفعه طاعة الطائعين، كما لا تضره معصية العاصين.

                                                                                                                                                                                                                                        إن يشأ يذهبكم بالإهلاك ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين فإذا عرفتم بأنكم لا بد أن تنتقلوا من هذه الدار، كما انتقل غيركم، وترحلون منها وتخلونها لمن بعدكم، كما رحل عنها من قبلكم وخلوها لكم، فلم اتخذتموها قرارا؟ وتوطنتم بها ونسيتم، أنها دار ممر لا دار مقر. وأن أمامكم دارا، هي الدار التي جمعت كل نعيم وسلمت من كل آفة ونقص؟

                                                                                                                                                                                                                                        وهي الدار التي يسعى إليها الأولون والآخرون، ويرتحل نحوها السابقون واللاحقون، التي إذا وصلوها، فثم الخلود الدائم، والإقامة اللازمة، والغاية التي لا غاية وراءها، والمطلوب الذي ينتهي إليه كل مطلوب، والمرغوب الذي يضمحل دونه كل مرغوب، هنالك والله، ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، ويتنافس فيه المتنافسون، من لذة الأرواح، وكثرة الأفراح، ونعيم الأبدان والقلوب، والقرب من علام الغيوب، فلله همة تعلقت بتلك الكرامات، وإرادة سمت إلى أعلى الدرجات" وما أبخس حظ من رضي بالدون، وأدنى همة من اختار صفقة المغبون".

                                                                                                                                                                                                                                        (134) ولا يستبعد المعرض الغافل، سرعة الوصول إلى هذه الدار. ف إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين لله، فارين من عقابه، فإن نواصيكم تحت قبضته، وأنتم تحت تدبيره وتصرفه.

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 512 ] (135) قل يا أيها الرسول لقومك إذا دعوتهم إلى الله، وبينت لهم ما لهم وما عليهم من حقوقه، فامتنعوا من الانقياد لأمره، واتبعوا أهواءهم، واستمروا على شركهم: يا قوم اعملوا على مكانتكم أي: على حالتكم التي أنتم عليها، ورضيتموها لأنفسكم. إني عامل على أمر الله، ومتبع لمراضي الله. فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار أنا أو أنتم، وهذا من الإنصاف بموضع عظيم، حيث بين الأعمال وعامليها، وجعل الجزاء مقرونا بنظر البصير، ضاربا فيه صفحا عن التصريح الذي يغني عنه التلويح. وقد علم أن العاقبة الحسنة في الدنيا والآخرة للمتقين، وأن المؤمنين لهم عقبى الدار، وأن كل معرض عما جاءت به الرسل، عاقبته سوء وشر، ولهذا قال: إنه لا يفلح الظالمون فكل ظالم، وإن تمتع في الدنيا بما تمتع به، فنهايته فيه الاضمحلال والتلف "إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته"

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية