الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ومن بلغ الميقات مريدا للنسك لم يجز أنه يجاوزه حتى يحرم ، لما ذكرناه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما فإن جاوزه وأحرم دونه نظرت [ ص: 213 ] فإن كان له عذر بأن يخشى أن يفوته الحج ، أو الطريق مخوف - لم يعد وعليه دم ، وإن لم يخش شيئا لزمه أن يعود لأنه نسك واجب مقدور عليه ، فلزمه الإتيان به ، فإن لم يرجع لزمه الدم ، وإن رجع نظرت - فإن كان قبل أن يتلبس بنسك - سقط عنه الدم ; لأنه قطع المسافة بالإحرام وزاد عليه ، فلم يلزمه دم ، وإن عاد بعدما وقف أو بعدما طاف لم يسقط عنه الدم . لأنه عاد بعد فوات الوقت فلم يسقط عنه الدم ، كما لو دفع من الموقف قبل الغروب ثم عاد في غير وقته ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) قال الشافعي والأصحاب : إذا انتهى الآفاقي إلى الميقات وهو يريد الحج أو العمرة أو القران حرم عليه مجاوزته غير محرم بالإجماع ، فإن جاوزه فهو مسيء سواء كان من أهل تلك الناحية أم من غيرها . كالشامي يمر بميقات المدينة . قال أصحابنا : ومتى جاوز موضعا يجب الإحرام منه غير محرم أثم وعليه العود إليه والإحرام منه إن لم يكن له عذر ، فإن كان عذر كخوف الطريق أو انقطاع عن رفقته أو ضيق الوقت ، أو مرض شاق أحرم من موضعه ومضى وعليه دم إذا لم يعد فقد أثم بالمجاوزة ، ولا يأثم بترك الرجوع ، فإن عاد فله حالان : ( أحدهما ) يعود قبل الإحرام فيحرم منه فالمذهب الذي قطع به المصنف والجماهير لا دم عليه ، سواء كان دخل مكة أم لا . وقال إمام الحرمين والغزالي : إن عاد قبل أن يبعد عن الميقات بمسافة القصر سقط الدم ، وإن عاد بعد دخول مكة وجب ولم يسقط بالعود ، وإن عاد بعد مسافة القصر وقبل دخول مكة فوجهان : ( أصحهما ) يسقط ، وهذا التفصيل شاذ منكر .

                                      ( الحال الثاني ) أن يحرم بعد مجاوزة الميقات محرما فطريقان : ( أحدهما ) في سقوط الدم وجهان وقيل قولان حكاهما الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب في تعليقه وصاحب الشامل وآخرون . قال القاضي أبو الطيب : هما قولان وكان الشيخ أبو حامد يقول وجهان . قال : والصحيح قولان ، وسواء عند هؤلاء رجع من مسافة قريبة أو بعيدة ، [ ص: 214 ] لكنهم شرطوا رجوعه قبل تلبسه بنسك ( والطريق الثاني ) وهو الصحيح ، وبه قطع المصنف والجمهور أنه يفصل ، فإن عاد قبل التلبس بنسك سقط الدم ، وإن عاد بعده لم يسقط سواء كان النسك ركنا كالوقوف والسعي أو سنة كطواف القدوم وفيه وجه ضعيف أنه لا أثر للتلبس بالسنة فيسقط بالعود بعد ، حكاه البغوي والمتولي وآخرون ، كما لو كان محرما بالعمرة مما دون الميقات وعاد إليه بعد طوافها ، فإنه لا يسقط الدم بالعود بلا خلاف والمذهب الأول .

                                      ويخالف المعتمر ، فإنه عاد بعد فعله معظم أفعال النسك . والحاج لم يأت بشيء من أعمال النسك الواجبة فسقط عنه الدم ، واعلم أن جمهور الأصحاب لم يتعرضوا لزوال الإساءة بالعود ، وقد قال صاحب البيان : وهل يكون مسيئا بالمجاوزة إذا عاد إلى الميقات حيث سقط الدم ؟ فيه وجهان حكاهما في الفروع . الظاهر أنه لا يكون مسيئا ; لأنه حصل فيه محرما ، ( والثاني ) يصير مسيئا ; لأن الإساءة حصلت بنفس المجاوزة فلا يسقط . قال أصحابنا : ولا فرق في لزوم الدم في كل هذا بين المجاوز للميقات عامدا عالما أو جاهلا أو ناسيا لكن يفترقون في الإثم ، فلا إثم على الناسي والجاهل ، قال القاضي أبو الطيب والمتولي وغيرهما : ويخالف ما لو تطيب ناسيا لا دم عليه ; لأن الطيب من المحظورات ، والنسيان عذر عندنا في المحرمات كالأكل والصوم والكلام في الصلاة ، ( وأما ) الإحرام من الميقات فمأمور به والجهل والنسيان في المأمور به لا يجعل عذرا والله أعلم .

                                      ( وأما ) إذا مر بالميقات وأحرم بأحد النسكين ، ثم بعد مجاوزته أدخل النسك الآخر عليه بأن أدخل الحج على العمرة أو عكسه - وجوزناه - ففي وجوبه عليه وجهان حكاهما المتولي والبغوي وآخرون : ( أحدهما ) يلزمه لأنه جاوز الميقات مريدا للنسك وأحرم بعده ( والثاني ) لا يلزمه لأنه جاوز [ ص: 215 ] الميقات محرما فصار كما لو أحرم بالميقات إحراما مبهما ، فلما جاوز صرفه إلى الحج ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في هذه المسألة : قد ذكرنا أن مذهبنا أنه إذا جاوز الميقات مريدا للنسك فأحرم دونه أثم فإن عاد قبل التلبس بالنسك سقط عنه الدم ، سواء عاد ملبيا أم غير ملب . هذا مذهبنا وبه قال الثوري وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور . وقال مالك وابن المبارك وزفر وأحمد : لا يسقط عنه الدم بالعود . وقال أبو حنيفة : إن عاد ملبيا سقط الدم وإلا فلا وحكى ابن المنذر عن الحسن والنخعي أنه لا دم على المجاوز مطلقا ، قال : وهو أحد قولي عطاء . وقال ابن الزبير : يقضي حجته ثم يعود إلى الميقات فيحرم بعمرة ، وحكى ابن المنذر وغيره عن سعيد بن جبير أنه لا حج له ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) قال صاحب البيان : سمعت الشريف العثماني من أصحابنا يقول : إذا جاوز المدني ذا الحليفة غير محرم وهو مريد للنسك ، فبلغ مكة غير محرم ، ثم خرج منها إلى ميقات بلد آخر كذات عرق أو يلملم وأحرم منه . فلا دم عليه بسبب مجاوزة ذي الحليفة ، لأنه لا حكم لإرادته النسك لما بلغ مكة غير محرم " فصار كمن دخل مكة غير محرم ، وقلنا : يجب الإحرام لدخولها لا دم عليه ، هذا نقل صاحب البيان ، وهو محتمل وفيه نظر .




                                      الخدمات العلمية