الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : في هبة المريض وما يتصل به في الدور

                                                                                                                                            وإذا وهب المريض في مرضه هبة ، فإن كانت لوارث فهي مردودة ؛ لأن هبة المريض وصية من ثلثه والوارث ممنوع من الوصية ، وكذلك لو وهب لغير وارث فصار عند الموت وارثا كانت باطلة ؛ لأنها صارت هبة لوارث ، ولو وهب لوارث فصار عند الموت غير وارث ، فهي هبة لغير وارث اعتبارا بحاله عند الموت .

                                                                                                                                            ولو وهب في مرضه لوارثه ، ثم مات الموهوب له قبل الواهب ، صحت الهبة إن احتملها الثلث ؛ لأنه لما مات قبله صار غير وارث .

                                                                                                                                            ولو وهب لوارث في مرضه ، ثم صح منه ومات من غيره ، كانت الهبة جائزة ؛ لأن تعقب الصحة يمنع من أن يكون ما يقدمه وصية .

                                                                                                                                            فأما إذا وهب لأجنبي في مرضه الذي مات منه هبة ، فإن لم يقبضها حتى مات ، فالهبة باطلة ؛ لأنها لا تتم إلا بالقبض .

                                                                                                                                            وإن أقبضه قبل الموت ، صحت الهبة وكانت من الثلث ، تمضي إن احتملها الثلث ويرد منها ما عجز الثلث عنه .

                                                                                                                                            وهكذا لو وهب في صحته وأقبض في مرضه ، كانت في ثلثه ؛ لأنها بالقبض في الموصي ، فصارت هبة في المرض .

                                                                                                                                            فلو وهب في مرضه وأقبض وأعتق ، فإن كان الثلث يحتملها ، صحت الهبة والعتق ، [ ص: 291 ] وإن كان الثلث لا يحتملها لم يصح ، وإن كان الثلث يحتمل أحدهما صحت الهبة لتقدمها ورد العتق لتأخره .

                                                                                                                                            ولو أعتق قدر ثلثه ثم وهب صح ، وردت الهبة اعتبارا بالتقدم ، سواء كان المتقدم عتقا أو هبة .

                                                                                                                                            ولو وهب قدر ثلثه ، ثم أوصى بالثلث بعد موته في عتق أو غيره ، كانت الهبة في المرض مقدمة على الوصية ؛ لأنها عطية ناجزة ، فإذا تقررت هذه الجملة فدور هذا الفصل يتصور في مريض وهب لأخيه عبدا قيمته مائة درهم لا يملك غيره ، ثم مات الموهوب له قبل الواهب وخلف بنتا ، فقد زادت تركة الواهب بما ورثه من الموهوب له فزادت الهبة بالزائد في الميراث ، وإذا كان هكذا فطريق العمل فيه أن تقول الخارج بالهبة سهم من ثلاثة ، فإذا ورث الوارث نصفه وأسقط من سهميه يبقى له سهم ونصف والهبة سهم فابسط ذلك لمخرج النصف تكن خمسة منها للهبة سهمان فتصح الهبة في خمس العبد ويبقى مع الواهب ثلاثة أخماسه ، ثم ورث من الموهوب أحد الخمسين ، فصار معه أربعة أخماس العبد وذلك مثلي ما صحت فيه الهبة من الخمسين .

                                                                                                                                            فلو كان الواهب والمسألة بحالها مع العبد الموهوب الذي قيمته مائة درهم صار مال الواهب مائتي درهم فاقسمها على خمسة يكن قسط كل واحد سهما أربعين درهما ، فامض من هبة العبد بسهمين منهما تكن أربعة أخماسه وهو قدر ما جازت فيه الوصية وبقي مع الواهب مائة درهم وخمس العبد بعشرين درهما وورث من الأربعة الأخماس الموهوبة خمسين بأربعين درهما ومعه مائة وستون درهما ، وذلك مثلا ما جازت فيه الوصية .

                                                                                                                                            ولو كان الواهب قد خلف مائة وخمسين درهما جازت الهبة في العبد كله ؛ لأن التركة تصير مائتين وخمسين درهما ، فإذا قسمتها على خمسة كان قسط كل سهم خمسين درهما ، فإذا جمعت بين سهمين كان مائة درهم وهي قيمة كل العبد ويبقى مع الواهب مائة وخمسون درهما ، ثم ورث نصف العبد خمسين درهما صار معه مائتا درهم وذلك مثلا قيمة العبد .

                                                                                                                                            فلو كان الواهب لا يملك غير العبد وكان عليه خمسون درهما دينا ، كان نصف العبد مستحقا في الدين ونصفه الباقي مقسوما على خمسة للهبة منه بسهمين الخمس بعشرين ، ويبقى مع الواهب خمس ونصف بثلاثين درهما وورث من الخمس الموهوب نصفه بعشرة دراهم صار معه أربعون درهما وهي مثلا ما خرج بالهبة .

                                                                                                                                            فلو كان الواهب لا يملك غير العبد ولا دين عليه ، لكن خلف الموهوب له سوى ما وهب له مائة درهم فطريق العمل فيه أن تقول : ترك الواهب عبدا قيمته مائة درهم وقد ورث عن أخيه نصف المال خمسين درهما ، صار الجميع مائة وخمسين درهما ، فإذا قسمت على الخمسة كان قسط كل سهم ثلاثين درهما فامض من هبة العبد بسهمين قدرهما ستون درهما تكن ثلاثة أخماسه وهو قدر ما كانت فيه الهبة وقد بقي مع الواهب خمساه بأربعين درهما [ ص: 292 ] وورث نصف ثلاثة أخماسه ثلاثين درهما ونصف المائة خمسين درهما ، صار معه مائة وعشرون درهما وذلك مثلا ما جاز بالهبة .

                                                                                                                                            فصل آخر منه : وإذا وهب المريض لمريض عبدا ، ثم وهبه المريض الموهوب له للمريض الواهب ، ثم ماتا ولم يخلفا غير العبد الذي يوهباه ، فالعبد بين ورثتيهما على ثمانية أسهم ، منها لورثة الواهب الأول ستة أثمانه ، ولورثة الواهب الثاني ثمناه .

                                                                                                                                            فوجه العمل فيه أن الواهب الأول لما وهبه نفذت الهبة في ثلثه ، ولما وهب الثاني الثلث نفذت الهبة في ثلثه ، فصار الداير على الأول ثلث الثلث وهو سهم من تسعة فأسقطه ليتقطع دوره بقي من التسعة ثمانية أسهم للعبد مقسوم عليها منها هبة الأول للثاني ثلاثة أسهم وهبة الثاني للأول من هذه الثلاثة أسهم ، وقد كان مع الأول خمسة أسهم وعاد إليه سهم ، فصار مع ورثته ستة أثمان العبد ، وهو مثلا ما جاز من هبته ؛ لأن الجائز منها ثلاثة أثمانه ، ومع ورثة الثاني ثمنا العبد وهو مثلا ما جاز من هبته ؛ لأن الجائز ثمنه ، وسواء مات الثاني قبل الأول أو الأول قبل الثاني ؛ لأنها هبة بتاتا ، ولكن لو كان الواهب الثاني ما وهب هبة بتاتا وأوصى ولو أوصى الثاني للأول بثلث ماله نظر ، فإن مات الثاني قبل الأول كان الجواب على ما مضى ؛ لأنه قد عاد إلى الأول ثلث ما وهب ، وإن مات الأول قبل الثاني بطلت وصية الثاني للأول وصحت هبة الأول في ثلث العبد لانقطاع الدور .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية