الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
كتاب الوقف قال الشيخ الإمام الزاهد الأجل شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله إملاء : اعلم بأن الوقف لغة الحبس والمنع ، وفيه لغتان أوقف يوقف إيقافا ووقف يقف وقفا قال الله تعالى { وقفوهم إنهم مسئولون } . وفي الشريعة عبارة عن حبس المملوك عن التمليك من الغير وظن بعض أصحابنا رحمهم الله أنه غير جائز على قول أبي حنيفة وإليه يشير في ظاهر الرواية فنقول أما أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه فكان لا يجيز ذلك ومراده أن لا يجعله لازما .

فأما أصل الجواز ثابت عنده ; لأنه يجعل الواقف حابسا للعين على ملكه صارفا للمنفعة إلى الجهة التي سماها فيكون بمنزلة العارية والعارية جائزة غير لازمة ; ولهذا قال لو أوصى به بعد موته يكون لازما بمنزلة الوصية بالمنفعة بعد الموت .

وذكر الطحطاوي رحمه الله تعالى أن عنده لو نفذه في مرضه فهو كالمضاف إلى ما بعد الموت ; لأن تصرف المريض مرض الموت في الحكم كالمضاف إلى ما بعد الموت حتى يعتبر من ثلثه وخصوصا فيما لا [ ص: 28 ] يكون تمليكا كالعتق كأنه يجعله موقوفا على ما يظهر عند موته والصحيح أن ما باشره في المرض بمنزلة ما لو باشره في الصحة في أنه لا يتعلق به اللزوم ، ولا يمتنع الإرث بمنزلة العارية إلا أن يقول في حياتي وبعد موتي فحينئذ يلزم إذا كان مؤبدا وصار الأبد فيه كعمر الموصى له بالخدمة في لزوم الوصية بعد الموت .

فأما أبو يوسف ومحمد رحمهما الله قالا الوقف لا يزيل ملكه ، وإنما يحبس العين عن الدخول في ملك غيره ، وليس من ضرورة ذلك امتناع زوال ملكه فلزوال الملك في حقه يلزم حتى لا يورث عنه بعد وفاته ; لأن الوارث يخلف المورث في ملكه وكان أبو يوسف رحمه الله يقول أولا بقول أبي حنيفة رحمه الله ، ولكنه لما حج مع الرشيد رحمه الله فرأى وقوف الصحابة رضوان الله عليهم بالمدينة ونواحيها رجع فأفتى بلزوم الوقف فقد رجع عند ذلك عن ثلاث مسائل ( إحداها ) هذه ( والثانية ) تقدير الصاع بثمانية أرطال ( والثالثة ) أذان الفجر قبل طلوع الفجر .

وحجتهم في ذلك الآثار المشهورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين منهم عمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعائشة وحفصة رضي الله تعالى عنهم فإنهم باشروا الوقف وهو باق إلى يومنا هذا ، وكذلك وقف إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه باق إلى يومنا هذا ، وقد أمرنا باتباعه قال الله تعالى { فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا } والناس تعاملوا به من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا يعني اتخاذ الرباطات والخانات وتعامل الناس من غير نكير حجة ، وقد استبعد محمد رحمه الله قول أبي حنيفة في الكتاب لهذا وسماه تحكما على الناس من غير حجة فقال ما أخذ الناس بقول أبي حنيفة وأصحابه إلا بتركهم التحكم على الناس .

فإذا كانوا هم الذين يتحكمون على الناس بغير أثر ، ولا قياس لم يقلدوا هذه الأشياء ، ولو جاز التقليد كان من مضى من قبل أبي حنيفة مثل الحسن البصري وإبراهيم النخعي رحمهما الله أحرى أن يقلدوا ولم يحمد على ما قال . وقيل بسبب ذلك انقطع خاطره فلم يتمكن من تفريغ مسائل الوقف حتى خاض في الصكوك واستكثر أصحابه من بعده من تفريغ مسائل الوقف كالخصاف وهلال رحمهما الله ، ولو كان أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه في الأحياء حين قال ما قال لدمر عليه فإنه كما قال مالك رضي الله تعالى عنه رأيت رجلا لو قال هذه الأسطوانة من ذهب لدل عليه ، ولكن كل مجري بالجلاء يسر ، ثم استدل بالمسجد فقال اتخاذ المسجد يلزم بالاتفاق وهو إخراج لتلك البقعة عن ملكه من غير أن يدخل في ملك أحد ، ولكنها تصير محبوسة بنوع قربة قصدها .

فكذلك [ ص: 29 ] في الوقف وبهذا تبين أنه ليس من ضرورة الحبس عن الدخول في ملك الغير امتناع خروجه عن ملكه ، ثم للناس حاجة إلى ما يرجع إلى مصالح معاشهم ومعادهم . فإذا جاز هذا النوع من الإخراج والحبس لمصلحة المعاد . فكذلك لمصلحة المعاش كبناء الخانات والرباطات واتخاذ المقابر ، ولو جاز الفرق بين هذه الأشياء لكان الأولى أن يقال لا يلزم المسجد وتلزم المقبرة حتى لا يورث لما في النبش من الإضرار والاستبعاد عند الناس ، أو كان ينبغي أن يلتزم الوقف دون المسجد ; لأن في الوقف ، وإن انعدم التمليك في عينه فلذلك يوجد فيما هو المقصود به وهو التصدق بالغلة ، وذلك لا يوجد في المسجد فكان هذا الفرق أبعد عن التحكم مما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله هذا معنى ما احتج به محمد رحمه الله ، وقد طوله في الكتاب .

ويستدلون بالعتق أيضا ففيه إزالة الملك الثابت في العبد من غير تمليك وصح ذلك على قصد التقرب . فكذلك في الوقف وحجة أبي حنيفة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم { يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت وما سوى ذلك فهو مال الوارث } فبين النبي عليه الصلاة والسلام أن الإرث إنما ينعدم في الصدقة التي أمضاها ، وذلك لا يكون إلا بعد التمليك من غيره .

( وسئل ) الشعبي عن الحبس فقال جاء محمد عليه الصلاة والسلام ببيع الحبس فهذا بيان أن لزوم الوقف كان في شريعة من قبلنا وأن شريعتنا ناسخة لذلك . وقال ابن مسعود وابن عباس رضي الله تعالى عنهم لا حبس عن فرائض الله تعالى ، ولكنهم يحملون هذا الأثر على ما كان أهل الجاهلية يصنعونه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ويقولون الشرع أبطل ذلك كله ، ولكنا نقول النكرة في موضع النفي تعم فيتناول كل طريق يكون فيه حبس عن الميراث إلا ما قام عليه دليل .

( واستدل ) بعض مشايخنا رحمهم الله بقوله عليه الصلاة والسلام { إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة } فقالوا معناه ما تركناه صدقة لا يورث ذلك عنا ، وليس المراد أن أموال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا تورث ، وقد قال الله تعالى { وورث سليمان داود } . وقال تعالى { فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب } فحاشا أن يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف المنزل فعلى هذا التأويل في الحديث بيان أن لزوم الوقف من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام خاصة بناء على أن الوعد منهم كالعهد من غيرهم ، ولكن في هذا الكلام نظر فقد استدل أبو بكر رضي الله عنه على فاطمة رضي الله عنها حين ادعت فدك بهذا الحديث على ما روي أنها ادعت أن رسول الله [ ص: 30 ] صلى الله عليه وسلم وهب فدك لها وأقامت رجلا وامرأة فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه ضمي إلى الرجل رجلا ، أو إلى المرأة امرأة فلما لم تجد ذلك جعلت تقول من يرثك فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه أولادي فقالت فاطمة رضي الله تعالى عنها أيرثك أولادك ، ولا أرث أنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة } فعرفنا أن المراد بيان أن ما تركه يكون صدقة ، ولا يكون ميراثا عنه .

وقد وقعت الفتنة بين الناس بسبب ذلك فترك الاشتغال به أسلم والمعنى فيه أن العين الموقوفة فيه كانت مملوكة قبل الوقف وبقيت بعده مملوكة والمملوك بغير مالك لا يكون فمن ضرورة بقائها مملوكة أن يكون هو المالك ، أو غيره ولم تصر مملوكة لغيره فكانت باقية على ملكه والوارث يخلف المورث في ملكه ، وبيان قولنا أنها بقيت مملوكة أنه ينتفع بها على وجه الانتفاع بالمملوكات من حيث السكنى والزراعة وسائر وجوه الانتفاعات ، ولأنها خلقت مملوكة في الأصل ، وقد تقرر ذلك بتمام الإحراز فلا يتصور إخراجها عن أن تكون مملوكة إلا أن يجعلها لله تعالى خالصا وبالوقف لا يتحقق ذلك .

وفي هذه التسمية ما يدل على أنها مملوكة محبوسة ، وبه فارق العتق فالآدمي خلق في الأصل ليكون مالكا فصفة المملوكية فيه عارض محتمل للرفع . وإذا رفع كان مالكا كما كان ، ومن ضرورة إثبات قوة المالكية انعدام المملوكية وبخلاف المسجد فإن تلك البقعة تخرج من أن تكون مملوكة وتصير لله تعالى ألا ترى أنه لا ينتفع بها بشيء من منافع الملك ، وإن كانت تصلح لذلك ، وقد وجدنا لهذا الطريق أصلا في الشرع وهو الكعبة فتلك البقعة لله تعالى خالصة متحرزة عن ملك العباد فألحقنا سائر المساجد بها ولم نجد مثل ذلك في الوقف بل الوقف بمنزلة تسييب أهل الجاهلية من حيث إنه لا تخرج به العين من أن تكون مملوكة منتفعا بها .

ولو سيب دابته لم تخرج من ملكه . فكذلك إذا وقف أرضه ، أو داره . وإذا بقيت مملوكة له لا يمتنع الإرث فيها إلا باعتبار حق يستثنيه لنفسه بعد وفاته ، وذلك فيما إذا أضاف الوقف إلى ما بعد الموت فإنه تبقى العين على حكم ملكه لشغله إياه بحاجته والناس لم يأخذوا قول أبي حنيفة في المسألة إلا باشتهار الآثار . فأما من حيث المعنى كلامه قوي وهو يحمل الآثار على الوقف المضاف إلى ما بعد الموت ، أو المنفعة في الحياة ، وبعد الموت ، قال رحمه الله تعالى قد تم الكتاب على قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه .

وإنما البيان بعد هذا على قولهما ، ثم بدأ الكتاب بحديث رواه [ ص: 31 ] عن صخر بن جويرية عن نافع { أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كانت له أرض تدعى ثمغا وكان نخلا نفيسا فقال عمر رضي الله تعالى عنه يا رسول الله إني استفدت مالا وهو عندي نفيس أفأتصدق به فقال صلوات الله وسلامه عليه تصدق بأصله لا يباع ، ولا يوهب ، ولا يورث ، ولكن لينفق من ثمره } ، فتصدق به عمر رضي الله عنه في سبيل الله تعالى ، وفي الرقاب والضيف والمساكين وابن السبيل ولذي القربى منه ، ولا جناح على من وليه أن يأكل منه بالمعروف ، أو يؤكل صديقا له غير متمول منه .

وهذه الأرض سهم عمر رضي الله عنه بخيبر حين قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر بين أصحابه رضي الله عنهم وثمغ لقب لها ، وقد كانت لأملاكهم ألقاب حتى كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة يقال لها العضباء وبغلة يقال لها دلدل وفرس يقال له السكب وحمار يقال له يعفور وعمامة تسمى السحابة ، ثم في هذا دليل أن من قصد التقرب إلى الله سبحانه وتعالى فينبغي أن يختار لذلك أنفس أمواله وأطيبها قال الله تعالى { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } . وقال الله سبحانه وتعالى { ، ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } ; فلهذا اختار عمر رضي الله عنه أنفس أمواله وأطيبها لما أراد التصدق ، وفيه دليل على أن من أراد التقرب إلى الله تعالى فالأولى أن يقدم السؤال عن ذلك وأن الربا لا يدخل في هذا السؤال بخلاف ما يقوله جهال المتقشفة ، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوقف بقوله تصدق بأصله لا يباع ، ولا يوهب ، ولا يورث فهو من حجة من يقول بلزوم الوقف .

وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه وقف كما فعله عمر رضي الله عنه ، ولكن لم يستثن للوالي شيئا ، وفيه دليل على أن كل ذلك واسع إن استثنى للوالي أن يأكل بالمعروف كما فعله عمر رضي الله عنه وهو صواب ، وإن لم يستثن ذلك كما فعله علي رضي الله عنه فهو صواب أيضا وللوالي أن يأكل منه بالمعروف مقدار حاجته كما أن للإمام فعل ذلك في بيت المال ولوصي اليتيم ذلك في مال اليتيم إذا عمل له قال الله تعالى { ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف } ، ولكن لا يكون له أن يؤكل غيره ممن ليس في عياله إلا إذا شرط الواقف ذلك كما فعله عمر رضي الله عنه ، أو يؤكل صديقا له .

( وقوله ) غير متمول منه يعني يكتفي بما يأكل ، ولا يكتسب به المال بالبيع لنفسه وهو نظير الغازي في طعام الغنيمة يباح له أن يتناول بقدر حاجته ، ولا يتمول ذلك بالبيع والإقراض من غيره ، وفيه دليل محمد رحمه الله أن الوقف لا يتم إلا بالتسليم إلى المتولي ، وفي قوله لا جناح على من وليه إشارة إلى ذلك ، وقد روي أنه جعل وقفه في يد ابنته حفصة رضي الله تعالى عنهما قال محمد رحمه الله ; ولهذا يأخذ إذا [ ص: 32 ] تصدق بها في حياته في صحته كان ذلك من جميع ماله .

وإذا تصدق به في مرضه كان ذلك من ثلثه ; لأنه إزالة الملك بطريق التبرع ،

التالي السابق


الخدمات العلمية