الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      كنتم خير أمة كلام مستأنف سيق لتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الاتفاق على الحق والدعوة إلى الخير كذا قيل ، وقيل : هو من تتمة الخطاب الأول في قوله سبحانه وتعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته وتوالت بعد هذا خطابات المؤمنين من أوامر ونواهي ، واستطرد بين ذلك من يبيض وجهه ومن يسود ، وشيء من أحوالهم في الآخرة ، ثم عاد إلى الخطاب الأول تحريضا على الانقياد والطواعية ، وكان ناقصة ولا دلالة لها في الأصل على غير الوجود في الماضي من غير دلالة على انقطاع أو دوام ، وقد تستعمل للأزلية كما في صفاته تعالى نحو ( وكان الله بكل شيء عليما ) وقد تستعمل للزوم الشيء وعدم انفكاكه نحو وكان الإنسان أكثر شيء جدلا وذهب بعض النحاة إلى أنها تدل بحسب الوضع على الانقطاع كغيرها من الأفعال الناقصة ، والمصحح هو الأول وعليه لا تشعر الآية بكون المخاطبين ليسوا خير أمة الآن ، وقيل : المراد كنتم في علم الله تعالى أو في اللوح المحفوظ أو فيما بين الأمم أي في علمهم كذلك ، وقال الحسن : معناه أنتم خير أمة ، واعترض بأنه يستدعي زيادة كان وهي لا تزاد في أول الجملة .

                                                                                                                                                                                                                                      ( أخرجت ) أي أظهرت وحذف الفاعل للعلم به ( للناس ) متعلق بما عنده ، وقيل : بخير أمة ، وجملة ( أخرجت ) صفة لأمة ، وقيل : لـ ( خير ) ، والأول أولى ، والخطاب قيل : لأصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة ، وإليه ذهب الضحاك ، وقيل : للمهاجرين من بينهم وهو أحد خبرين عن ابن عباس ، وفي آخر أنه عام لأمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، ويؤيده ما أخرجه الإمام أحمد بسند حسن عن أبي الحسن كرم الله تعالى وجهه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : " أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء ؛ نصرت بالرعب ، وأعطيت مفاتيح الأرض ، وسميت أحمد ، وجعل التراب لي طهورا ، وجعلت أمتي خير الأمم ".

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه : أن الآية في أهل بيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وأخرج ابن جرير عن عكرمة : أنها نزلت في ابن مسعود وعمار بن ياسر ، [ ص: 28 ] وسالم مولى أبي حذيفة ، وأبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، والظاهر أن الخطاب وإن كان خاصا بمن شاهد الوحي من المؤمنين أو ببعضهم ، لكن حكمه يصلح أن يكون عاما للكل كما يشير إليه قول عمر رضي الله تعالى عنه فيما حكى قتادة : " يا أيها الناس من سره أن يكون من تلكم الأمة فليؤد شرط الله تعالى منها " وأشار بذلك إلى قوله سبحانه : تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر فإنه وإن كان استئنافا مبينا لكونهم خير أمة ، أو صفة ثانية لأمة على ما قيل إلا أنه يفهم الشرطية ، والمتبادر من المعروف الطاعات ، ومن المنكر المعاصي التي أنكرها الشرع .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس في الآية أن المعنى تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ، ويقروا بما أنزل الله تعالى ، وتقاتلونهم عليهم ، ولا إله إلا الله هو أعظم المعروف ، وتنهونهم عن المنكر والمنكر هو التكذيب وهو أنكر المنكر ، وكأنه رضي الله تعالى عنه حمل المطلق على الفرد الكامل ، وإلا فلا قرينة على هذا التخصيص وتؤمنون بالله أريد بالإيمان به سبحانه الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به ؛ لأن الإيمان إنما يعتد به ويستأهل أن يقال له إيمان إذا آمن بالله تعالى على الحقيقة ، وحقيقة الإيمان بالله تعالى أن يستوعب جميع ما يجب الإيمان به ، فلو أخل بشيء منه لم يكن من الإيمان بالله تعالى في شيء ، والمقام يقتضيه لكونه تعريضا بأهل الكتاب وأنهم لا يؤمنون بجميع ما يجب الإيمان به كما يشعر بذلك التعقيب بنفي الإيمان عنهم ، مع العلم بأنهم مؤمنون في الجملة ، وأيضا المقام مقام مدح للمؤمنين بكونهم ( خير أمة أخرجت للناس ) وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها المعلل للخبرية ، فلو لم يرد الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به لم يكن مدحا ، فلا يصلح للتعليل والعطف يقتضيه ، وإنما أخر الإيمان عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع تقدمه عليهما وجودا ورتبة كما هو الظاهر ؛ لأن الإيمان مشترك بين جميع الأمم دون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهما أظهر في الدلالة على الخيرية ، ويجوز أن يقال قدمهما عليه للاهتمام وكون سوق الكلام لأجلهما ، وأما ذكره فكالتتميم ، ويجوز أيضا أن يكون ذلك للتنبيه على أن جدوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الدين أظهر مما اشتمل عليه الإيمان بالله تعالى ؛ لأنه من وظيفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام - ولو قيل قدما - وأخر للاهتمام وليرتبط بقوله تعالى : ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم لم يبعد ، أي لو آمنوا إيمانا كما ينبغي لكان ذلك الإيمان ( خيرا لهم ) مما هم عليه من الرياسة في الدنيا لدفع القتل والذل عنهم ، والآخرة لدفع العذاب المقيم ، وقيل : لو آمن أهل الكتاب بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم لكان خيرا لهم من الإيمان بموسى وعيسى فقط عليهما السلام ، وقيل : المفضل عليه ما هم فيه من الكفر ، فالخيرية إنما هي باعتبار زعمهم وفيه ضرب تهكم بهم وهذه الجملة معطوفة على كنتم خير أمة مرتبطة بها على معنى ولو آمن أهل الكتاب كما آمنتم وأمروا بالمعروف كما أمرتم ونهوا عن المنكر كما نهيتم لكان خيرا لهم . منهم المؤمنون كعبد الله بن سلام ، وأخيه ، وثعلبة بن شعبة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأكثرهم الفاسقون (110) أي الخارجون عن طاعة الله تعالى ، وعبر عن الكفر بالفسق إيذانا بأنهم خرجوا عما أوجبه كتابهم ، وقيل : للإشارة إلى أنهم في – الكفار - بمنزلة الكفار في العصاة لخروجهم إلى الحال الفاحشة التي هي منهم أشنع وأفظع .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية