الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة ) .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            إشارة إلى بيان زيادة ضلالهم ونهايتها ، فإنهم كان الواجب عليهم عبادة الله شكرا لأنعمه ، فتركوها وأقبلوا على عبادة من لا يضر ولا ينفع ، وتوقعوا منه النصرة مع أنهم هم الناصرون لهم كما قال عنهم : ( حرقوه وانصروا آلهتكم ) [ الأنبياء : 68 ] وفي الحقيقة لا هي ناصرة ولا منصورة .

                                                                                                                                                                                                                                            وقوله تعالى : ( لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            إشارة إلى الحشر بعد تقرير التوحيد ، وهذا كقوله تعالى : ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ) [ الأنبياء : 98 ] وقوله : ( احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم ) [ الصافات : 22 ] وقوله : ( أولئك في العذاب ) [ سبأ : 38 ] وهو يحتمل معنيين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون العابدون جندا لما اتخذوه آلهة كما ذكرنا .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن يكون الأصنام جندا للعابدين ، وعلى هذا ففيه معنى لطيف وهو أنه تعالى لما قال : ( لا يستطيعون نصرهم ) أكدها بأنهم لا يستطيعون نصرهم حال ما يكونون جندا لهم ومحضرين لنصرتهم ، فإن ذلك دال على عدم الاستطاعة ، فإن من حضر واجتمع ثم عجز عن النصرة يكون في غاية الضعف بخلاف من لم يكن متأهبا ولم يجمع أنصاره .

                                                                                                                                                                                                                                            وقوله تعالى : ( فلا يحزنك قولهم ) إشارة إلى الرسالة ؛ لأن الخطاب معه بما يوجب تسلية قلبه دليل اجتبائه واختياره إياه .

                                                                                                                                                                                                                                            وقوله تعالى : ( إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون ) يحتمل وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن لا يكون ذلك تهديدا للمنافقين والكافرين فقوله ( ما يسرون ) من النفاق ( وما يعلنون ) من الشرك .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : ما يسرون من العلم بك وما يعلنون من الكفر بك .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : ما يسرون من العقائد الفاسدة وما يعلنون من الأفعال القبيحة .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم إنه تعالى لما ذكر دليلا من الآفاق على وجوب عبادته بقوله : ( أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما ) [ يس : 71 ] ذكر دليلا من الأنفس .

                                                                                                                                                                                                                                            فقال : ( أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة ) قيل : إن المراد بالإنسان أبي بن خلف ، فإن الآية وردت فيه حيث أخذ عظما باليا وأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : إنك تقول إن إلهك يحيي هذه العظام فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : نعم ويدخلك جهنم ، وقد ثبت في أصول الفقه أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ألا ترى أن قوله تعالى : ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها ) [ المجادلة : 1 ] نزلت في واحدة وأراد الكل في الحكم فكذلك كل إنسان ينكر الله أو الحشر فهذه الآية رد عليه إذا علمت عمومها فنقول فيها لطائف :

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 95 ] اللطيفة الأولى : قوله : ( أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا ) [ يس : 71 ] معناه الكافرون المنكرون التاركون عبادة الله المتخذون من دونه آلهة ، أو لم يروا خلق الأنعام لهم وعلى هذا فقوله تعالى : ( أولم ير الإنسان ) كلام أعم من قوله : ( أولم يروا ) لأنه مع جنس الإنسان وهو مع جمع منهم ، فنقول سبب ذلك أن دليل الأنفس أشمل وأكمل وأتم وألزم ، فإن الإنسان قد يغفل عن الأنعام وخلقها عند غيبتها ولكن [ لا يغفل ] هو مع نفسه متى ما يكون وأينما يكون . فقال : إن غاب عن الحيوان وخلقه فهو لا يغيب عن نفسه ، فما باله ! أولم ير أنا خلقناه من نطفة وهو أتم نعمة ، فإن سائر النعم بعد وجوده . وقوله : ( من نطفة ) إشارة إلى وجه الدلالة ، وذلك لأن خلقه لو كان من أشياء مختلفة الصور كان يمكن أن يقال : العظم خلق من جنس صلب واللحم من جنس رخو ، وكذلك الحال في كل عضو ، ولما كان خلقه عن نطفة متشابهة الأجزاء وهو مختلف الصور دل على الاختيار والقدرة إلى هذا أشار بقوله تعالى : ( يسقى بماء واحد ) [ الرعد : 4 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية