الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            [ ص: 464 ] إعمال الفكر في فضل الذكر

            مسألة في الذكر والتسبيح والدعاء : هل هو معادل للصدقة ويقوم مقامها في دفع البلاء ؟ الجواب : الأحاديث والآثار صريحة في ذلك وفي تفضيله على الصدقة ، وأما كونه سببا لدفع البلاء فهو أمر لا مرية فيه ، فقد وردت أحاديث لا تحصى في أذكار مخصوصة من قالها عصم من البلاء ومن الشيطان ومن الضر ومن السم ومن لذعة العقرب ، ومن أن يصيبه شيء يكرهه ، وكتاب الأذكار للشيخ محيي الدين النووي مشحون بذلك ، وكذا كتاب الدعاء للطبراني وللبيهقي ، فلا معنى للإطالة بذلك ، وقد صح في لا حول ولا قوة إلا بالله ، أنها تدفع سبعين بابا من الضر أدناها الفقر ، وفي رواية : أدناها الهم ، وأخرج الحاكم وصححه عن ثوبان مرفوعا : " لا يرد القدر إلا الدعاء " وأخرج الحاكم أيضا من حديث عائشة مرفوعا : " الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل ، وإن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة " وأخرج مثله من حديث ابن عمر . وأخرج أبو داود وغيره عن ابن عباس مرفوعا : " من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب " وأخرج ابن أبي شيبة عن سويد بن جميل قال : من قال بعد العصر : لا إله إلا الله له الحمد وهو على كل شيء قدير ، قاتلن عن قائلهن إلى مثلها من الغد ، وأخرج إسحاق بن راهويه في مسنده من طريق الزهري قال : أتي أبو بكر الصديق بغراب وافر الجناحين فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما صيد صيد ولا عضدت عضاه ولا قطعت وشيجة إلا بقلة التسبيح " وأخرجه أبو الشيخ في كتاب العظمة من طريق ابن عون بن مهران عن أبي بكر موقوفا . وأخرج أبو نعيم في الحلية مثله من حديث أبي هريرة ، وأبو الشيخ في العظمة نحوه من حديث أبي الدرداء مرفوعا : " ما أخذ طائر ولا حوت إلا بتضييع التسبيح " ، ومن حديث أنس مرفوعا : " آجال البهائم كلها وخشاش الأرض في التسبيح ، فإذا انقضى تسبيحها قبض الله أرواحها " ومن حديث يزيد بن مرثد مرفوعا : لا يصاد شيء من الطير والحيتان إلا بما يضيع من تسبيح الله .

            [ ص: 465 ] وأما تفضيل الذكر على الصدقة ففيه أحاديث كثيرة ، مرفوعة وموقوفة ، فمن الموقوفة ما أخرجه الحاكم والترمذي عن أبي الدرداء مرفوعا : " ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق وأن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا : وما ذاك يا رسول الله ؟ قال : ذكر الله " وأخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " سئل : أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة ؟ قال : الذاكرون الله كثيرا . قلت : يا رسول الله ، ومن الغازي في سبيل الله ؟ قال : لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دما لكان الذاكرون الله أفضل منه درجة " وأخرج الحاكم عن البراء مرفوعا : " من قال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، عشر مرات ، فهو كعتق نسمة " وأخرج البيهقي في شعب الإيمان من طريق أنس مرفوعا : " لأن أقعد مع قوم يذكرون الله منذ صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل " .

            ففي هذين عدل الذكر بالعتق وتفضيله عليه . ومن الموقوفات أخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن ابن مسعود قال : " لأن أسبح تسبيحات أحب إلي من أن أنفق بعددهن دنانير في سبيل الله " . وأخرج عنه قال : " لأن أقول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، أحب إلي من أن أتصدق بعددها دنانير " ، وأخرج عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : " لأن أقول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، أحب إلي من أن أحمل على عدتها من خيل بأرسانها " وأخرج عن ابن عمر قال : " ذكر الله بالغداة والعشي أعظم من حطم السيوف في سبيل الله وإعطاء المال سحا " وأخرج عن أبي الدرداء قال : " لأن أسبح مائة تسبيحة أحب إلي من أن أتصدق بمائة دينار على المساكين " ، وأخرج عن معاذ بن جبل قال : لو أن رجلين أحدهما يحمل على الجياد في سبيل الله والآخر يذكر الله ، لكان الذاكر أعظم وأفضل أجرا . وأخرج عنه قال : " لأن أذكر الله من غدوة حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أحمل على الجياد في سبيل الله " وأخرج عن عبادة بن الصامت مثله . وأخرج عن سلمان الفارسي قال : " لو بات رجل يعطي القيان البيض وبات آخر يقرأ القرآن أو يذكر الله ، لرأيت أن ذاكر الله أفضل " ، وأخرج عن ابن عمرو قال : " لو أن رجلين أقبل أحدهما من المشرق والآخر من المغرب ، مع أحدهما ذهب لا يضع منه شيئا إلا في حق ، والآخر يذكر الله حتى يلتقيا في طريق ، كان الذي يذكر الله أفضلهما " فهؤلاء سبع صحابة صرحوا بتفضيل الذكر على الصدقة ، ومن أقوال غير الصحابة أخرج ابن أبي شيبة عن أبي الأحوص قال : " لتسبيحة في طلب حاجة خير من لقوح [ ص: 466 ] صفي في عام أزبة أو لزبة " ، وأخرج عن أبي بردة قال : " لو أن رجلين أحدهما في حجره دنانير يعطيها والآخر يذكر الله ، كان ذاكر الله أفضل " والآثار في المعنى كثيرة ، وفيما أوردناه كفاية .

            ومما استدل به على تفضيل الذكر على سائر العبادات أنه لم يرخص في تركه في حال من الأحوال ، أخرج ابن جرير في تفسيره عن قتادة قال : افترض الله ذكره عند أشغل ما تكونوا ، عند الضراب بالسيوف فقال : ( ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ) والله أعلم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية