الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( ثم يغسل وجهه وذلك فرض لقوله تعالى - : { فاغسلوا وجوهكم } والوجه ما بين منابت شعر الرأس إلى الذقن ومنتهى اللحيين طولا ، ومن الأذن إلى الأذن عرضا ، والاعتبار بالمنابت المعتادة لا بمن تصلع الشعر عن ناصيته ولا بمن نزل إلى جبهته . وفي موضع التحذيف وجهان ، قال أبو العباس : هو من الوجه لأنهم أنزلوه من الوجه ، وقال أبو إسحاق : هو من الرأس لأن الله تعالى - : خلقه من الرأس فلا يصير وجها بفعل الناس ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) : غسل الوجه واجب في الوضوء بالكتاب والسنن المتظاهرة والإجماع ، وهذا الذي ذكره المصنف في حد الوجه هو الصواب الذي عليه الأصحاب ونص عليه الشافعي - رحمه الله في الأم ، وذكر المزني في المختصر في حده كلاما طويلا مختلا أنكره عليه الأصحاب ونقل إمام الحرمين عن [ ص: 406 ] الأصحاب في حده عبارة حسنة فقال : قال الأصحاب : حده طولا ما بين منحدر تدوير الرأس أو من مبتدإ تسطيح الجبهة إلى منتهى ما يقبل من الذقن ، ومن الأذن إلى الأذن عرضا . هذا كلام الإمام . قال أصحابنا : ولا يدخل وتدا الأذن في الوجه ولا خلاف فيه ، قال البغوي : إلا أنه لا يمكن غسل جميع الوجه إلا بغسلهما ، والبياض الذي بين الأذن والعذار من الوجه عندنا وهو داخل في الحد . وأما إذا تصلع الشعر عن ناصيته أي : زال عن مقدم رأسه فلا يجب غسل ذلك الموضع بلا خلاف لأنه من الرأس ، ولو نزل الشعر عن المنابت المعتادة إلى الجبهة نظر إن عمها وجب غسلها كلها بلا خلاف ، وإن ستر بعضها فطريقان الصحيح منهما وبه قطع العراقيون وجوب غسل ذلك المستور ، ونقل القاضي حسين أن الشافعي نص عليه في الجامع الكبير .

                                      ( والثاني ) وبه قال الخراسانيون : فيه وجهان أصحهما هذا ، والثاني : لا يجب لأنه في صورة الرأس .

                                      وأما موضع التحذيف فسمي بذلك لأن الأشراف والنساء يعتادون إزالة الشعر عنه ليتسع الوجه قال الشيخ أبو حامد : هو الشعر الذي بين النزعة والعذار وهو المتصل بالصدغ ، ، وقال الشاشي في المستظهري : هو ما بين ابتداء العذار والنزعة داخلا في الجبين من جانبي الوجه يؤخذ عنه الشعر ، يفعله الأشراف . وقال الغزالي في الوسيط : هو القدر الذي إذا وضع طرف الخيط على رأس الأذن والطرف الثاني على زاوية الجبين وقع في جانب الوجه . وقال أبو الفرج عبد الرحمن السرخسي في أماليه : هو موضع الشعر الخفيف الذي ينزل منبته إلى الجبين بين بياضين ، أحدهما : بياض النزعة . والثاني : بياض الصدغ ، وقيل في حده أقوال أخر . وأما حكمه : ففيه الوجهان اللذان ذكرهما المصنف بدليلهما وكلاهما منقول عن نص الشافعي . قال إمام الحرمين في النهاية : قال الشافعي : موضع التحذيف من الوجه وأشار الشيخ أبو حامد إلى نحو هذا ، وقال الروياني في البحر : قال القاضي أبو الطيب : قال أبو إسحاق المروزي : نص [ ص: 407 ] الشافعي في الإملاء أنه من الرأس ، فهذان نصان . واتفق الأصحاب في الطريقين على حكاية الخلاف وجهين مع أنهما قولان كما ترى ، فكأنهما لم يثبتا عند واحد منهم وإن كان قد ثبت أحدهما عند بعضهم ، واختلفوا في أصح الوجهين فصحح الماوردي والبندنيجي والغزالي في الوسيط والوجيز أنه من الوجه ، وبه قطع إمام الحرمين ، ونقله الماوردي عن أبي علي بن أبي هريرة وصحح الجمهور كونه من الرأس ، منهم القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والمتولي والشاشي وصاحب البيان وآخرون ونقله الروياني والرافعي عن الجمهور ، وهو الموافق لنص الشافعي في حد الرأس والله أعلم .

                                      ( فرع ) قول المصنف : إلى الذقن ومنتهى اللحيين ، جمع بينهما تأكيدا وإلا فأحدهما يغني عن الآخر ، والذقن بفتح الذال المعجمة والقاف وجمعه أذقان وهو مجمع اللحيين ، واللحيان بفتح اللام وأحدهما لحي ، هذه اللغة المشهورة وحكى صاحب مطالع الأنوار وغيره كسر اللام وهو غريب ضعيف ، وهما الفكان وعليهما منابت الأسنان السفلى ، والأذن بضم الذال ويجوز إسكانها تخفيفا ، وكذا كل ما كان على ( فعل ) بضم أوله وثانيه يجوز إسكان ثانيه كعنق وكتب ورسل ، وفي الشعر لغتان مشهورتان بفتح العين وإسكانها والفتح أفصح ، وقوله : لأنهم أنزلوه من الوجه معناه نزلوه منزلة جزء من الوجه ، والذين نزلوه هم الأشراف والنساء كما سبق والله أعلم .

                                      ( فرع ) ذكرنا أن البياض الذي بين الأذن والعذار من الوجه ، هذا مذهبنا وحكاه أصحابنا عن أبي حنيفة ومحمد وأحمد وداود ، وعن مالك أنه ليس من الوجه ، وعن أبي يوسف يجب على الأمرد غسله دون الملتحي ، وحكى الماوردي هذا التفصيل عن مالك ، ودليلنا أنه تحصل به المواجهة كالخد . واحتج الماوردي وغيره فيه بحديث علي رضي الله عنه في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في غسل الوجه : { ضرب بالماء على وجهه ثم ألقم إبهاميه ما أقبل من أذنيه } رواه أبو داود والبيهقي وليس بقوي ، لأنه من رواية محمد بن إسحاق صاحب المغازي وهو مدلس ولم يذكر سماعه فلا يحتج به كما عرف ، فلهذا لم أعتمده وإنما اعتمدت المعنى وذكرت الحديث تقوية ولأبين والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية