الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 39 ] إنهم كانوا لا يرجون حسابا وكذبوا بآياتنا كذابا موقع هذه الجملة موقع التعليل لجملة إن جهنم كانت مرصادا إلى قوله : جزاء وفاقا ولذلك فصلت .

وضمير ( إنهم ) عائد إلى الطاغين .

وحرف ( إن ) للاهتمام بالخبر وليست لرد الإنكار ؛ إذ لا ينكر أحد أنهم لا يرجون حسابا وأنهم مكذبون بالقرآن ، وشأن ( إن ) إذا قصد بها مجرد الاهتمام أن تكون قائمة مقام فاء التفريع مفيدة للتعليل ، وتقدم ذلك عند قوله تعالى : إنك أنت العليم الحكيم وقوله : إن البقر تشابه علينا في سورة البقرة ، فالجملة معترضة بين ما قبلها وبين جملة فذوقوا .

وقد علمت مناسبة جزاءهم لجرمهم عند قوله آنفا جزاء وفاقا مما يزيد وجه التعليل وضوحا .

وقوله : لا يرجون حسابا نفي لرجائهم وقوع الجزاء .

والرجاء اشتهر في ترقب الأمر المحبوب ، والحساب ليس خيرا لهم حتى يجعل نفي ترقبه من قبيل نفي الرجاء ، فكان الظاهر أن يعبر عن ترقبه بمادة التوقع الذي هو ترقب الأمر المكروه ، فيظهر أن وجه العدول عن التعبير بمادة التوقع إلى التعبير بمادة الرجاء أن الله لما أخبر عن جزاء الطاغين وعذابهم تلقى المسلمون ذلك بالمسرة ، وعلموا أنهم ناجون مما سيلقاه الطاغون ، فكانوا مترقبين يوم الحساب ترقب رجاء ، فنفي رجاء يوم الحساب عن المشركين جامع بصريحه معنى عدم إيمانهم بوقوعه ، وبكنايته رجاء المؤمنين وقوعه بطريقة الكناية التعريضية تعريضا بالمسلمين ، وهي أيضا تلويحية لما في لازم مدلول الكلام من الخفاء .

ومن المفسرين من فسر ( يرجون ) بمعنى : يخافون ، وهو تفسير بحاصل المعنى ، وليس تفسيرا للفظ .

وفعل ( كانوا ) دال على أن انتفاء رجائهم الحساب وصف متمكن من [ ص: 40 ] نفوسهم وهم كائنون عليه ، وليس المراد بفعل ( كانوا ) أنهم كانوا كذلك فانقضى ; لأن هذه الجملة إخبار عنهم في حين نزول الآية وهم في الدنيا ، وليست مما يقال لهم أو عنهم يوم القيامة .

وجيء بفعل ( يرجون ) مضارعا للدلالة على استمرار انتفاء ما عبر عنه بالرجاء ، وذلك لأنهم كلما أعيد لهم ذكر يوم الحساب جددوا إنكاره وكرروا شبهاتهم على نفي إمكانه لأنهم قالوا إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين .

والحساب : العد ، أي : عد الأعمال والتوقيف على جزائها ، أي : لا يرجون وقوع حساب على أعمال العباد يوم الحشر .

و ( كذبوا ) عطف على لا يرجون ، أي : وإنهم كذبوا بآياتنا ، أي : بآيات القرآن .

والمعنى : كذبوا ما اشتملت عليه الآيات من إثبات الوحدانية ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم .

ولكون تكذيبهم بذلك قد استقر في نفوسهم ولم يترددوا فيه جيء في جانبه بالفعل الماضي لأنهم قالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب .

وكذاب : - بكسر الكاف وتشديد الذال - مصدر كذب . والفعال - بكسر أوله وتشديد عينه - مصدر فعل مثل التفعيل ، ونظائره : القصار مصدر قصر ، والقضاء مصدر قضى ، والخراق مصدر خرق - المضاعف - ، والفسار مصدر فسر . وعن الفراء أن أصل هذا المصدر من اللغة اليمنية ، يريد : وتكلم به العرب ، فقد أنشدوا لبعض بني كلاب :

لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي وعن حوج قضاؤها من شفائيا

وأوثر هذا المصدر هنا دون التكذيب لمراعاة التماثل في فواصل هذه السورة ، فإنها على نحو ألف التأسيس في القوافي ، والفواصل كالأسجاع ويحسن في الأسجاع ما يحسن في القوافي .

[ ص: 41 ] وفي الكشاف : وفعال فعل كله فاش في كلام فصحاء من العرب ، لا يقولون غيره .

وانتصب ( كذابا ) على أنه مفعول مطلق مؤكد لعامله لإفادة شدة تكذيبهم بالآيات .

التالي السابق


الخدمات العلمية