الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
إن للمتقين مفازا حدائق وأعنابا وكواعب أترابا وكأسا دهاقا لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا جزاء من ربك عطاء حسابا جرى هذا الانتقال على عادة القرآن في تعقيب الإنذار للمنذرين بتبشير من هم أهل للتبشير .

فانتقل من ترهيب الكافرين بما سيلاقونه إلى ترغيب المتقين فيما أعد لهم في الآخرة من كرامة ومن سلامة مما وقع فيه أهل الشرك .

فالجملة متصلة بجملة إن جهنم كانت مرصادا للطاغين مآبا وهي مستأنفة استئنافا ابتدائيا بمناسبة مقتضي الانتقال .

وافتتاحها بحرف ( إن ) للدلالة على الاهتمام بالخبر لئلا يشك فيه أحد .

والمقصود من المتقين المؤمنون الذين آمنوا بالنبيء - صلى الله عليه وسلم - واتبعوا ما أمرهم به واجتنبوا ما نهاهم عنه ، لأنهم المقصود من مقابلتهم بالطاغين المشركين .

والمفاز : مكان الفوز ، وهو الظفر بالخير ونيل المطلوب . ويجوز أن يكون مصدرا ميميا بمعنى الفوز ، وتنوينه للتعظيم .

[ ص: 44 ] وتقديم خبر ( إن ) على اسمها للاهتمام به تنويها بالمتقين .

والمراد بالمفاز : الجنة ونعيمها . وأوثرت كلمة ( مفازا ) على كلمة الجنة ; لأن في اشتقاقه إثارة الندامة في نفوس المخاطبين بقوله : فتأتون أفواجا وبقوله : فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا .

وأبدل ( حدائق ) من ( مفازا ) بدل بعض من كل باعتبار أنه بعض من مكان الفوز ، أو بدل اشتمال باعتبار معنى الفوز .

والحدائق : جمع حديقة وهي الجنة من النخيل والأشجار ذوات الساق المحوطة بحائط أو جدار أو حضائر .

والأعناب : جمع عنب وهو اسم يطلق على شجرة الكرم ويطلق على ثمرها .

والكواعب : جمع كاعب ، وهي الجارية التي بلغت سن خمس عشرة سنة ونحوها . ووصفت بكاعب لأنها تكعب ثديها ، أي : صار كالكعب ، أي : استدار ونتأ ، يقال : كعبت من باب قعد ويقال : كعبت بتشديد العين . ولما كان كاعب وصفا خاصا بالمرأة لم تلحقه هاء التأنيث وجمع على فواعل .

والأتراب : جمع ترب بكسر فسكون : وهو المساوي غيره في السن ، وأكثر ما يطلق على الإناث . قيل : هو مشتق من التراب ، فقيل : لأنه حين يولد يقع على التراب مثل الآخر ، أو لأن الترب ينشأ مع لدته في سن الصبا يلعب بالتراب .

وقيل : مشتق من الترائب تشبيها في التساوي بالترائب وهي ضلوع الصدر فإنها متساوية .

وتقدم الأتراب في قوله تعالى : عربا أترابا في الواقعة ، فيجوز أن يكون وصفهم بالأتراب بالنسبة بينهن في تساوي السن لزيادة الحسن ، أي : لا تفوت واحدة منهن غيرها ، أي : فلا تكون النفس إلى إحداهن أميل منها إلى الأخرى فتكون بعضهن أقل مسرة في نفس الرجل .

ويجوز أن يكون هذا الوصف بالنسبة بينهن وبين أزواجهن ; لأن ذلك أحب إلى [ ص: 45 ] الرجال في معتاد أهل الدنيا ; لأنه أوفق بطرح التكلف بين الزوجين وذلك أحلى المعاشرة .

والكأس : إناء معد لشرب الخمر وهو اسم مؤنث تكون من زجاج ومن فضة ومن ذهب ، وربما ذكر في كتب اللغة أن الكأس الزجاجة فيها الشراب ، ولم أقف على أن لها شكلا معينا يميزها عن القدح وعن الكوب وعن الكوز ، ولم أجد في قواميس اللغة التعريف بالكأس بأنها : إناء الخمر وأنها الإناء ما دام فيه الشراب ، وهذا يقتضي أنها لا تختص بصنف من الآنية .

وقد يطلقون على الخمر اسم الكأس وأريد بالكأس الجنس ؛ إذ المعنى وأكؤسا ، وعدل عن صيغة الجمع ; لأن كأسا بالإفراد أخف من أكؤس وكؤوس ، ولأن هذا المركب جرى مجرى المثل كما سيأتي .

ودهاق : اسم مصدر دهق من باب جعل ، أو اسم مصدر أدهق ، ولكونه في الأصل مصدرا لم يقترن بعلامة تأنيث .

والدهق والإدهاق ملء الإناء من كثرة ما صب فيه .

ووصف الكأس بالدهق من إطلاق المصدر على المفعول ، كالخلق بمعنى المخلوق ، فإن الكأس مدهقة لا داهقة .

ومركب ( كأس دهاق ) يجري مجرى المثل ، قال عكرمة : قال ابن عباس : سمعت أبي في الجاهلية يقول : اسقنا كأسا دهاقا ، ولذلك أفرد كأسا ومعناه مملوءة خمرا ، أي : دون تقتير ; لأن الخمر كانت عزيزة فلا يكيل الحانوي للشارب إلا بمقدار ، فإذا كانت الكأس ملأى كان ذلك أسر للشارب .

وقوله : لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا يجوز أن يكون الضمير المجرور عائدا إلى الكأس ، فتكون ( في ) للظرفية المجازية بتشبيه تناول الندامى للشراب من الكأس بحلولهم في الكأس على طريق المكنية ، وحرف ( في ) تخييل ، أو تكون ( في ) للتعليل كما في الحديث دخلت امرأة النار في هرة الحديث ، أي : من أجل هرة . والمعنى : لا يسمعون لغوا ولا كذابا منها أو عندها ، فتكون الجملة صفة ثانية ل ( كأسا ) . والمقصود منها أن خمر الجنة سليمة مما تسببه خمر الدنيا من آثار [ ص: 46 ] العربدة من هذيان وكذب وسباب ، واللغو والكذب من العيوب التي تعرض لمن تدب الخمر في رؤوسهم ، أي : فأهل الجنة ينعمون بلذة السكر المعروفة في الدنيا قبل تحريم الخمر ، ولا تأتي الخمر على كمالاتهم النفسية كما تأتي عليها خمر الدنيا .

وكان العرب يمدحون من يمسك نفسه عن اللغو ونحوه في شرب الخمر ، قال عمارة بن الوليد :


ولسنا بشرب أم عمرو إذا انتشوا ثياب الندامى بينهم كالغنائم     ولكننا يا أم عمرو نديمنا
بمنزلة الريان ليس بعائم



وكان قيس بن عاصم المنقري ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية وقال :

فإن الخمر تفضح شاربيها     وتجنيهم بها الأمر العظيما


ويجوز أن يعود ضمير ( فيها ) إلى ( مفازا ) باعتبار تأويله بالجنة لوقوعه في مقابلة ( جهنم ) من قوله : إن جهنم كانت مرصادا ، أو لأنه أبدل ( حدائق ) من ( مفازا ) وهذا المعنى نشأ عن أسلوب نظم الكلام ؛ حيث قدم حدائق وأعنابا إلخ ، وأخر وكأسا دهاقا حتى إذا جاء ضمير ( فيها ) بعد ذلك جاز إرجاعه إلى الكأس وإلى المفاز كما علمت ، وهذا من بديع الإيجاز مع وفرة المعاني مما عددناه من وجوه الإعجاز من جانب الأسلوب في المقدمة العاشرة من هذا التفسير ، أي : لا يسمعون في الجنة الكلام السافل ولا الكذب . فلما أحاط بأهل جهنم أشد الأذى بجميع حواسهم من جراء حرق النار وسقيهم الحميم والغساق لينال العذاب بواطنهم كما نال ظاهر أجسادهم ، كذلك نفى عن أهل الجنة أقل الأذى وهو أذى سماع ما يكرهه الناس ، فإن ذلك أقل الأذى .

وكني عن انتفاء اللغو والكذاب عن شاربي خمر الجنة بأنهم لا يسمعون اللغو والكذاب فيها ; لأنه لو كان فيها لغو وكذب لسمعوه ، وهذا من باب قول امرئ القيس :


على لاحب لا يهتدى بمناره



أي : لا منار فيه فيهتدى به ، وهو نوع من لطيف الكناية ، والذي في الآية أحسن مما وقع في بيت امرئ القيس ونحوه ; لأن فيه إيماء إلى أن أهل الجنة منزهة أسماعهم [ ص: 47 ] عن سقط القول وسفل الكلام ، كما في قوله في سورة الواقعة لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما .

واللغو : الكلام الباطل والهذيان وسقط القول الذي لا يورد عن روية ولا تفكير .

والكذاب : تقدم معناه آنفا .

وقرأ الجمهور ( كذابا ) هنا مشددا . وقرأه الكسائي هنا بتخفيف الذال . وانتصب ( جزاء ) على الحال من ( مفازا ) .

وأصل الجزاء مصدر جزى ، ويطلق على المجازى به من إطلاق المصدر على المفعول ، فالجزاء هنا المجازى به وهو الحدائق والجنات والكواعب والكأس .

والجزاء : إعطاء شيء عوضا على عمل . ويجوز أن يجعل الجزاء على أصل معناه المصدري وينتصب على المفعول المطلق الآتي بدلا من فعل مقدر . والتقدير : جزينا المتقين .

وإضافة ( رب ) إلى ضمير المخاطب مرادا به النبيء - صلى الله عليه وسلم - للإيماء إلى أن جزاء المتقين بذلك يشتمل على إكرام النبيء - صلى الله عليه وسلم - ; لأن إسداء هذه النعم إلى المتقين كان لأجل إيمانهم به وعملهم بما هداهم إليه .

و ( من ) ابتدائية ، أي : صادرا من لدن الله ، وذلك تنويه بكرم هذا الجزاء وعظم شأنه .

ووصف الجزاء ب ( عطاء ) وهو اسم لما يعطى ، أي : يتفضل به بدون عوض للإشارة إلى أن ما جوزوا به أوفر مما عملوه ، فكان ما ذكر للمتقين من المفاز وما فيه جزاء شكرا لهم وعطاء كرما من الله تعالى وكرامة لهذه الأمة ; إذ جعل ثوابها أضعافا .

وحسابا : اسم مصدر حسب - بفتح السين - ، يحسب - بضمها - ، إذا عد أشياء ، وجميع ما تصرف من مادة حسب متفرع عن معنى العد وتقدير المقدار ، فوقع ( حسابا ) صفة ( جزاء ) أي : هو جزاء كثير مقدر على أعمالهم .

والتنوين فيه للتكثير ، والوصف باسم المصدر للمبالغة وهو بمعنى المفعول ، [ ص: 48 ] أي : محسوبا مقدرا بحسب أعمالهم ، وهذا مقابل ما وقع في جزاء الطاغين من قوله : جزاء وفاقا .

وهذا الحساب مجمل هنا يبينه قوله تعالى : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وقوله : مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة .

وليس هذا الحساب للاحتراز عن تجاوز الحد المعين ، فلذلك استعمال آخر كما في قوله تعالى : إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ولكل آية مقامها الذي يجري عليه استعمال كلماتها ، فلا تعارض بين الآيتين .

ويجوز أن يكون ( حسابا ) اسم مصدر أحسبه ، إذا أعطاه ما كفاه ، فهو بمعنى إحسابا ، فإن الكفاية يطلق عليها حسب - بسكون السين - فإنه إذا أعطاه ما كفاه قال : حسبي .

التالي السابق


الخدمات العلمية