الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا

استئناف ابتدائي كالفذلكة لما تقدم من وعيد ووعد ، وإنذار وتبشير ، سيق مساق التنويه بـ يوم الفصل الذي ابتدئ الكلام عليه من قوله : إن يوم الفصل كان ميقاتا والمقصود التنويه بعظيم ما يقع فيه من الجزاء بالثواب والعقاب ، وهو نتيجة أعمال الناس من يوم وجود الإنسان في الأرض .

فوصف اليوم بالحق يجوز أن يراد به الثابت الواقع كما في قوله تعالى : وإن الدين لواقع وقوله آنفا : إن يوم الفصل كان ميقاتا ، فيكون الحق بمعنى الثابت ، مثلما في قوله تعالى : واقترب الوعد الحق .

ويجوز أن يراد بالحق ما قابل الباطل ، أي : العدل وفصل القضاء فيكون وصف اليوم به على وجه المجاز العقلي ; إذ الحق يقع فيه و ( اليوم ) ظرف له ، قال تعالى : يوم القيامة يفصل بينكم .

[ ص: 54 ] ويجوز أن يكون الحق بمعنى الحقيق بمسمى اليوم ; لأنه شاع إطلاق اسم اليوم على اليوم الذي يكون فيه نصر قبيلة على أخرى مثل : يوم حليمة ، ويوم بعاث . والمعنى : ذلك اليوم الذي يحق له أن يقال : يوم ، وليس كأيام انتصار الناس بعضهم على بعض في الدنيا فيكون كقوله تعالى : ذلك يوم التغابن ، فهو يوم انتقام الله من أعدائه الذين كفروا نعمته وأشركوا به عبيده في الإلهية ، ويكون وصف الحق بمثل المعنى الذي في قوله تعالى : الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ، أي : التلاوة الحقيقية باسم التلاوة وهي التلاوة بفهم معاني المتلو وأغراضه .

والإشارة بقوله : ( ذلك ) إلى ( اليوم ) المتقدم في قوله : إن يوم الفصل كان ميقاتا . ومفاد اسم الإشارة في مثل هذا المقام التنبيه على أن المشار إليه حقيق بما سيوصف به بسبب ما سبق من حكاية شؤونه كما في قوله تعالى : أولئك على هدى من ربهم بعد قوله : هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب إلى قوله : وبالآخرة هم يوقنون فلأجل جميع ما وصف به يوم الفصل كان حقيقا بأن يوصف بأنه اليوم الحق وما تفرع عن ذلك من قوله : فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا .

وتعريف ( اليوم ) باللام للدلالة على معنى الكمال ، أي : هو الأعظم من بين ما يعده الناس من أيام النصر للمنتصرين ; لأنه يوم يجمع فيه الناس كلهم ويعطى كل واحد منهم ما هو أهله من خير أو شر ، فكأن ما عداه من الأيام المشهورة في تاريخ البشر غير ثابت الوقوع .

وفرع عليه فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا بفاء الفصيحة لإفصاحها عن شرط مقدر ناشئ عن الكلام السابق . والتقدير : فإذا علمتم ذلك كله فمن شاء اتخاذ مآب عند ربه فليتخذه ، أي : فقد بان لكم ما في ذلك اليوم من خير وشر فليختر صاحب المشيئة ما يليق به للمصير في ذلك اليوم . والتقدير : مآبا فيه ، أي : في اليوم .

وهذا التفريع من أبدع الموعظة بالترغيب والترهيب عندما تسنح الفرصة للواعظ من تهيؤ النفوس لقبول الموعظة .

[ ص: 55 ] والاتخاذ : مبالغة في الأخذ ، أي : أخذ أخذا يشبه المطاوعة في التمكن ، فالتاء فيه ليست للمطاوعة الحقيقية بل هي مجاز وصارت بمنزلة الأصلية .

والاتخاذ : الاكتساب والجعل ، أي : ليقتن مكانا بأن يؤمن ويعمل صالحا لينال مكانا عند الله ; لأن المآب عنده لا يكون إلا خيرا .

فقوله : إلى ربه دل على أنه مآب خير ; لأن الله لا يرضى إلا بالخير .

والمآب يكون اسم مكان من آب ، إذا رجع ، فيطلق على المسكن ; لأن المرء يؤوب إلى مسكنه ، ويكون مصدرا ميميا وهو الأوب ، أي : الرجوع ، كقوله تعالى : إليه أدعو وإليه مآب ، أي : رجوعي ، أي : فليجعل أوبا مناسبا للقاء ربه ، أي : أوبا حسنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية