الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى اذهب إلى فرعون إنه طغى فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى .

هذه الآية اعتراض بين جملة فإنما هي زجرة واحدة وبين جملة أأنتم أشد خلقا الذي هو الحجة على إثبات البعث ثم الإنذار بما بعده دعت إلى استطراده مناسبة التهديد لمنكري ما أخبرهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من البعث لتماثل حال المشركين في طغيانهم على الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بحال فرعون وقومه ، وتماثل حال الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع قومه بحال موسى - عليه السلام - مع فرعون ليحصل من ذكر قصة موسى تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - وموعظة للمشركين وأئمتهم ، مثل : أبي جهل ، ، وأمية بن خلف ، وأضرابهما لقوله في آخرها : إن في ذلك لعبرة لمن يخشى .

و ( هل أتاك ) استفهام صوري يقصد من أمثاله تشويق السامع إلى الخير من غير قصد إلى استعلام المخاطب عن سابق علمه بذلك الخبر ، فسواء في ذلك [ ص: 74 ] علمه من قبل أو لم يعلمه ، ولذلك لا ينتظر المتكلم بهذا الاستفهام جوابا عنه من المسؤول ، بل يعقب الاستفهام بتفصيل ما أوهم الاستفهام عنه بهذا الاستفهام كناية عن أهمية الخبر ، بحيث إنه مما يتساءل الناس عن علمه .

ولذلك لا تستعمل العرب في مثله من حروف الاستفهام غير ( هل ) لأنها تدل على طلب تحقيق المستفهم عنه ، فهي في الاستفهام مثل ( قد ) في الإخبار ، والاستفهام معها حاصل بتقدير همزة استفهام ، فالمستفهم بها يستفهم عن تحقيق الأمر ، ومن قبيله قولهم في الاستفهام : أليس قد علمت كذا فيأتون ب ( قد ) مع فعل النفي المقترن باستفهام إنكار من غير أن يكون علم المخاطب محققا عند المتكلم .

والخطاب لغير معين فالكلام موعظة ويتبعه تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم .

و ( أتاك ) معناه : بلغك ؛ استعير الإتيان لحصول العلم تشبيها للمعقول بالمحسوس ، كأن الحصول مجيء إنسان على وجه التصريحية ، أو كأن الخبر الحاصل إنسان أثبت له الإتيان على طريقة الاستعارة المكنية ، قال النابغة :


أتاني أبيت اللعن أنك لمتني



والحديث : الخبر ، وأصله فعيل بمعنى فاعل من حدث الأمر إذا طرأ وكان ، أي : الحادث من أحوال الناس ، وإنما يطلق على الخبر بتقدير مضاف لا يذكر لكثرة الاستعمال تقديره خبر الحديث ، أي : خبر الحادث .

و ( إذا ) اسم زمان ، واستعمل هنا في الماضي وهو بدل من حديث موسى بدل اشتمال ; لأن حديثه يشتمل على كلام الله إياه وغير ذلك .

وكما جاز أن تكون ( إذا ) بدلا من المفعول به في قوله تعالى : واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء يجوز أن تكون بدلا من الفاعل وغيره ، واقتصار ابن هشام وغيره على أنها تكون مفعولا به أو بدلا من المفعول به اقتصار على أكثر موارد استعمالها إذا خرجت عن الظرفية ، فقد جوز في الكشاف وقوع ( إذ ) مبتدأ في قراءة من قرأ لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا في سورة آل عمران .

[ ص: 75 ] وأضيف ( إذ ) إلى جملة ( ناداه ربه ) والمعنى : هل أتاك خبر زمان نادى فيه موسى ربه .

والواد : المكان المنخفض بين الجبال .

والمقدس : المطهر . والمراد به التطهير المعنوي وهو التشريف والتبريك لأجل ما نزل فيه من كلام الله دون توسط ملك يبلغ الكلام إلى موسى - عليه السلام - ، وذلك تقديس خاص ، ولذلك قال الله له في الآية الأخرى فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس .

وطوى : اسم مكان ، ولعله هو نوع من الأودية يشبه البئر المطوية ، وقد سمي مكان بظاهر مكة ذا طوى بضم الطاء وبفتحها وكسرها . وتقدم في سورة طه . وهذا واد في جانب جبل الطور في برية سينا في جانبه الغربي .

وقرأ الجمهور ( طوى ) بلا تنوين على أنه ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث بتأويل البقعة ، أو للعدل عن طاو ، أو للعجمة . وقرأه ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف منونا باعتباره اسم واد مذكر اللفظ .

وجملة اذهب إلى فرعون بيان لجملة ( ناداه ربه ) .

وجملة ( إنه طغى ) تعليل للأمر في قوله : ( اذهب ) ، ولذلك افتتحت بحرف ( إن ) الذي هو للاهتمام ويفيد مفاد التعليل .

والطغيان إفراط التكبر وتقدم عند قوله : للطاغين مآبا في سورة النبأ .

وفرعون : لقب ملك القبط بمصر في القديم ، وهو اسم معرب عن اللغة العبرانية ، ولا يعلم هل هو اسم للملك في لغة القبط ، ولم يطلقه القرآن إلا على ملك مصر الذي أرسل إليه موسى ، وأطلق على الذي في زمن يوسف اسم الملك ، وقد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى : ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه في سورة الأعراف .

و هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك عرض وترغيب ، قال تعالى : فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى .

[ ص: 76 ] وقوله : ( هل لك ) تركيب جرى مجرى المثل فلا يغير عن هذا التركيب لأنه قصد به الإيجاز ، يقال : هل لك إلى كذا ؟ وهل لك في كذا ؟ وهو كلام يقصد منه العرض بقول الرجل لضيفه : هل لك أن تنزل ؟ ومنه قول كعب :


ألا بلغا عني بجيرا رسالة     فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا



بضم تاء ( قلت ) . وقول بجير أخيه في جوابه عن أبياته :


من مبلغ كعبا فهل لك في التي     تلوم عليها باطلا وهي أحزم



و ( لك ) خبر مبتدأ محذوف تقديره : هل لك رغبة في كذا ؟ فحذف ( رغبة ) واكتفي بدلالة حرف ( في ) عليه ، وقالوا : هل لك إلى كذا ؟ على تقدير : هل لك ميل ؟ فحذف ( ميل ) لدلالة ( إلى ) عليه .

قال الطيبي : قال ابن جني : متى كان فعل من الأفعال في معنى فعل آخر ، فكثيرا ما يجرى أحدهما مجرى صاحبه فيعول به في الاستعمال إليه ( كذا ) ويحتذى به في تصرفه حذو صاحبه وإن كان طريق الاستعمال والعرف ضد مأخذه ، ألا ترى إلى قوله تعالى : ( هل لك إلى أن تزكى ) وأنت إنما تقول : هل لك في كذا ؟ لكنه لما دخله معنى : آخذ بك إلى كذا أو أدعوك إليه ، قال : ( هل لك إلى أن تزكى ) . وقوله تعالى : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم لا يقال : رفثت إلى المرأة ، إنما يقال : رفثت بها ، ومعها ، لكن لما كان الرفث بمعنى الإفضاء عدي ب ( إلى ) وهذا من أسد مذاهب العربية ; لأنه موضع يملك فيه المعنى عنان الكلام فيأخذه إليه اهـ . قيل ليس هذا من باب التضمين بل من باب المجاز والقرينة الجارة .

و ( تزكى ) قرأه نافع ، وابن كثير ، وأبو جعفر ، ويعقوب بتشديد الزاي على اعتبار أن أصله : تتزكى ، بتاءين ، فقلبت التاء المجاورة للزاي زايا لتقارب مخرجيهما وأدغمت في الزاي . وقرأه الباقون بتخفيف الزاي على أنه حذفت إحدى التاءين اقتصارا للتخفيف .

وفعل ( تزكى ) على القراءتين أصله : تتزكى بتاءين مضارع تزكى مطاوع زكاه ، أي : جعله زكيا .

[ ص: 77 ] والزكاة : الزيادة ، وتطلق على الزيادة في الخير النفساني قال تعالى : قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها وهو مجاز شائع ساوى الحقيقة ولذلك لا يحتاج إلى قرينة .

والمعنى : حثه على أن يستعد لتخليص نفسه من العقيدة الضالة التي هي خبث مجازي في النفس ، فيقبل إرشاد من يرشده إلى ما به زيادة الخير فإن فعل المطاوعة يؤذن بفعل فاعل يعالج نفسه ويروضها إذ كان لم يهتد أن يزكي نفسه بنفسه .

ولذلك أعقبه بعطف : وأهديك إلى ربك فتخشى أي إن كان فيك إعداد نفسك للتزكية يكن إرشادي إياك فتخشى ، فكان ترتيب الجمل في الذكر مراعى فيه ترتبها في الحصول ، فلذلك لم يحتج إلى عطفه بفاء التفريع ، إذ كثيرا ما يستغنى بالعطف بالواو مع إرادة الترتيب عن العطف بحرف الترتيب ; لأن الواو تفيد الترتيب بالقرينة ، ويستغنى بالعطف عن ذكر حرف التفسير في العطف التفسيري الذي يكون الواو فيه بمعنى ( أي ) التفسيرية فإن أن تزكى وأهديك في قوة المفرد . والتقدير : هل لك في التزكية وهدايتي إياك فخشيتك الله تعالى .

والهداية : الدلالة على الطريق الموصل إلى المطلوب إذا قبلها المهدي .

وتفريع ( فتخشى ) على ( أهديك ) إشارة إلى أن خشية الله لا تكون إلا بالمعرفة ، قال تعالى : إنما يخشى الله من عباده العلماء أي : العلماء به ، أي : يخشاه خشية كاملة لا خطأ فيها ولا تقصير .

قال الطيبي : وعن الواسطي : أوائل العلم الخشية ، ثم الإجلال ، ثم التعظيم ، ثم الهيبة ، ثم الفناء .

وفي الاقتصار على ذكر الخشية إيجاز بليغ ; لأن الخشية ملاك كل خير . وفي جامع الترمذي عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل .

[ ص: 78 ] وذكر له الإله الحق بوصف ( ربك ) دون أن يذكر اسم الله العلم أو غيره من طرق التعريف إلطافا في الدعوة إلى التوحيد وتجنبا لاستطارة نفسه نفورا ، لأنه لا يعرف في لغة فرعون اسم الله تعالى ، ولو عرفه له باسمه في لغة إسرائيل لنفر ; لأن فرعون كان يعبد آلهة باطلة ، فكان في قوله ( إلى ربك ) - وفرعون يعلم أن له ربا - إطماع له أن يرشده موسى إلى ما لا ينافي عقائده فيصغي إليه سمعه حتى إذا سمع قوله وحجته داخله الإيمان الحق مدرجا ، ففي هذا الأسلوب استنزال لطائره .

والخشية : الخوف ؛ فإذا أطلقت في لسان الشرع يراد بها خشية الله تعالى ، ولهذا نزل فعلها هنا منزلة اللازم فلم يذكر له مفعول ; لأن المخشي معلوم مثل فعل الإيمان في لسان الشرع ، يقال : آمن فلان ، وفلان مؤمن أي : مؤمن بالله ووحدانيته .

التالي السابق


الخدمات العلمية