الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 245 ] 445 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضيافة من إيجابه إياها ومما سوى ذلك .

2810 - حدثنا بكار بن قتيبة ، قال : حدثنا أبو داود الطيالسي ، قال : حدثنا سليمان بن المغيرة ، قال : حدثنا ثابت ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : حدثنا المقداد بن عمرو ، قال : جئت أنا وصاحب لي قد كادت تذهب أسماعنا وأبصارنا من الجوع ، فجعلنا نتعرض للناس فلم يضفنا أحد ، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلنا : يا رسول الله بنا جوع شديد ، فتعرضنا للناس فلم يضفنا أحد ، فأتيناك ، فذهب بنا إلى منزله ، وعنده أربعة أعنز ، فقال : يا مقداد احلبهن ، وجزئ اللبن لكل اثنين جزءا .

2811 - وحدثنا محمد بن خزيمة ، قال : حدثنا حجاج بن منهال ، [ ص: 246 ] قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن المقداد بن عمرو ، قال : قدمت المدينة أنا وصاحب لي ، ثم ذكر مثله .

فكان هذا الحديث يدل على أن الضيافة ليست بواجبة ؛ لأنها لو كانت واجبة لأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على من تخلف عنها .

فقال قائل : كيف تقبلون هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنتم تروون عنه .

2812 - فذكر ما قد حدثنا بكار بن قتيبة ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا شعبة .

وذكر ما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا بشر بن عمر ، ووهب بن جرير ، عن شعبة ، عن منصور ، عن الشعبي ، عن المقدام أبي كريمة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليلة الضيف حق واجب على كل مسلم ، فإن أصبح بفنائه فإنه دين إن شاء اقتضاه ، وإن شاء تركه .

[ ص: 247 ]

2813 - وحدثنا نصر بن مرزوق ، قال : حدثنا الخصيب بن ناصح ، قال : حدثنا وهيب بن خالد ، عن منصور ، فذكر بإسناده مثله .

قال : ففي هذا الحديث إثباته وجوب الضيافة ، وجعله إياها دينا على من نزل به ، قال : وأنتم تروون عنه أيضا في توكيد وجوبها ما يزيد على ما في هذا الحديث .

2814 - فذكر ما قد حدثنا الربيع بن سليمان المرادي ، قال : حدثنا شعيب بن الليث ، قال : حدثنا الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر قال : قلنا : يا رسول الله ، إنك تبعثنا فنمر بقوم ، قال : إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا ، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي .

[ ص: 248 ]

2815 - وما قد حدثنا ابن أبي داود ، قال : حدثنا أبو مسهر الغساني ، قال : حدثنا يحيى بن حمزة ، عن الزبيدي ، عن مروان بن رؤبة أنه حدثه ، عن عبد الرحمن بن أبي عوف الجرشي ، عن المقدام بن معدي كرب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أيما رجل أضاف قوما فلم يقروه ، كان له أن يعقبهم بمثل قراه .

2816 - وما قد حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : حدثنا عمي عبد الله بن وهب ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن نعيم بن زياد ، [ ص: 249 ] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيما ضيف نزل بقوم فأصبح الضيف محروما ، له أن يأخذ بقدر قراه ولا حرج عليه .

2817 - حدثنا فهد ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح أن أبا طلحة حدثه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر مثله .

قال : وهذا يدل أيضا على إيجابها ، وأنها تكون لأهلها دينا على من حلوا به كسائر الديون سواها .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه : أن كل ضيف من هذين الضيفين قد يحتمل أن يكون غير الضيف الآخر منهما ، ويكون ما في حديث المقداد على ضيف قد يستطيع أن يتعوض من الضيافة غيرها بابتياع ما يغنيه عنها بما معه مما يستطيع أن يصرفه في ثمنه ، أو يسأل إن كان لا شيء معه حتى يصل بمسألته إلى ذلك ، وإن كان الأحسن بمن نزل به أن يكفيه ذلك ، وأن يمتثل في أمره ما [ ص: 250 ] قد أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم من إكرامه على ما قد ذكرناه فيما قبل هذا الباب من كتابنا هذا في ذلك المعنى ، ويكون ما في حديثي أبي هريرة والمقدام على المارين بقوم في بادية لا يجدون من ضيافتهم إياهم بدلا ، ولا يجدون ما يبتاعونه مما يغنيهم عن ذلك ، فيكون الحديثان اللذان ذكرنا كل واحد منهما له وجه غير وجه الحديث الآخر .

ومما يدل على ذلك ما قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

2818 - كما قد حدثنا الربيع بن سليمان الأزدي ، قال : حدثنا إسحاق بن بكر بن مضر ، قال : حدثنا أبي ، عن يزيد بن الهاد ، عن مالك بن أنس ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يحتلبن أحدكم ماشية أخيه بغير إذنه ، أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته فيحمل طعامه ، فإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم فلا يحتلبن أحدكم ماشية امرئ إلا بإذنه .

[ ص: 251 ]

2819 - وكما حدثنا يونس ، قال : أنبأنا ابن وهب أن مالكا حدثه ثم ذكر بإسناده مثله .

2820 - وكما حدثنا بكار ، قال : حدثنا مؤمل بن إسماعيل ، قال : حدثنا الثوري ، عن إسماعيل بن أمية ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله .

2821 - وكما حدثنا فهد ، قال : حدثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود البصري ، قال : حدثنا سفيان الثوري ، فذكر بإسناده مثله .

2822 - وكما حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا أبو عامر العقدي ، قال : حدثنا سليمان بن بلال ، عن سهيل ، عن عبد الرحمن بن سعد ، عن أبي حميد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس منه ، قال : وذلك لشدة ما حرم [ ص: 252 ] الله عز وجل على المسلم من مال المسلم .

2823 - وكما حدثنا الربيع بن سليمان بن داود ، قال : حدثنا أصبغ بن الفرج ، قال : حدثنا حاتم بن إسماعيل ، قال : حدثنا عبد الملك بن الحسن ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد ، عن عمارة بن حارثة ، عن عمرو بن يثربي قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : لا يحل لامرئ من مال أخيه شيء إلا بطيب نفس منه ، قال : قلت : يا رسول الله ، إن لقيت غنم ابن عمي آخذ منها شيئا ؟ فقال : إن لقيتها تحمل شفرة ، وأزنادا بخبت الجميش فلا تهجها .

[ ص: 253 ] قال أبو جعفر : ففيما روينا إثبات تحريم مال المسلم على المسلم .

فقال قائل : فقد رويتم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يخالف هذا .

2824 - فذكر ما قد حدثنا علي بن شيبة ، قال : حدثنا علي بن عاصم ، قال : حدثنا الجريري ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : أحسبه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا أتى أحدكم على حائط فليناد صاحبه ثلاث مرار ، فإن أجابه ، وإلا فليأكل من غير أن يفسد ، وإذا أتى على غنم فليناد راعيها ثلاث مرار ، فإن أجابه وإلا فليشرب من غير أن يفسد .

[ ص: 254 ] فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه : أن هذا قد يحتمل أن يكون على الضرورة إلى ذلك ، بلى قد وجدناه كذلك .

2825 - حدثنا فهد ، قال : حدثنا مخول بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن عبد الله بن عصمة ، قال : [ ص: 255 ] سمعت أبا سعيد الخدري يقول : إذا أرمل القوم فصبحوا الإبل ، فلينادوا الراعي ثلاثا ، فإن لم يجدوا الراعي ووجدوا الإبل ، فلينضحوا لبن الراوية ، وإن كان في الإبل راوية ، ولا حق لهم في نفسها ، فإن جاء الراعي فليمسكه رجلان ولا يقاتلوه وليشربوا فإن كان معهم دراهم ، فهو عليهم حرام إلا بإذن أهلها .

قال : فهذا موقوف على أبي سعيد .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه : أن الحديث الذي احتج به علينا مشكوك فيه ، هل هو مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، أو موقوف على أبي سعيد ؟ وقد وجدنا حديث ابن عصمة هذا مرفوعا في رواية شريك إياه .

2826 - كما حدثنا ابن أبي داود ، قال : حدثنا محمد بن الصباح ، قال : حدثنا شريك بن عبد الله ، عن عبد الله بن عصم ، قال : سمعت أبا سعيد الخدري رفعه قال : لا يحل لأحد أن يحل صرار ناقة إلا بإذن أهلها ، فإنه خاتمهم عليها .

[ ص: 256 ] قال أبو جعفر : فدل ذلك على أن ما في حديث عبد الله بن عصمة الذي سمي في هذا الحديث أبوه مكان عصمة ، عصما مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه على الإرمال لا على الوجود .

وقد وجدنا عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ما يدل على المعنى الذي ذهبنا إليه في هذا الباب .

2827 - كما حدثنا بكار ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا أبان بن يزيد العطار ، قال : أخبرني يحيى بن أبي كثير ، قال : حدثنا عبد الرحمن مولى سعد بن أبي وقاص ، قال : كنت مع سعد بن أبي وقاص في سفر فآوانا الليل إلى قرية دهقان ، وإذا الإبل عليها أحمالها ، فقال لي سعد : إن كنت تريد أن [ ص: 257 ] تكون مسلما حقا فلا تأكل منها شيئا ، فبتنا جائعين .

فكان هذا القول من سعد رضي الله عنه يدل على أن امتثاله من حقائق أمور الإسلام التي يجب على أهله التمسك بها ، وترك خلافها هو ما يفعله ، وأمر به مولاه مما ذكرنا ، وكان ذلك منه في قرية لا في بادية ، فكان ذلك القول منه على أحكام القرى ، وليس على أحكام ما سواها من البوادي ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية