الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى ( وما كان الله ليضيع إيمانكم )

قال أبو جعفر : قيل : عنى ب "الإيمان " ، في هذا الموضع : الصلاة .

ذكر الأخبار التي رويت بذلك ، وذكر قول من قاله :

2219 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع وعبيد الله - وحدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا عبيد الله بن موسى - جميعا ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قالوا : كيف بمن مات من إخواننا قبل ذلك ، وهم يصلون نحو بيت المقدس ؟ فأنزل الله جل ثناؤه : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " .

2220 - حدثني إسماعيل بن موسى قال : أخبرنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن البراء في قول الله عز وجل : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " قال : صلاتكم نحو بيت المقدس .

2221 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن البراء نحوه .

2222 - وحدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن نفيل الحراني قال : حدثنا زهير قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن البراء قال : مات على القبلة قبل أن تحول إلى البيت [ ص: 168 ] رجال وقتلوا ، فلم ندر ما نقول فيهم . فأنزل الله تعالى ذكره : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " .

2223 - حدثنا بشر بن معاذ العقدي قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : قال أناس من الناس - لما صرفت القبلة نحو البيت الحرام - : كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا ؟ فأنزل الله جل ثناؤه : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " .

2224 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثني عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : لما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل المسجد الحرام ، قال المسلمون : ليت شعرنا عن إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون قبل بيت المقدس ! هل تقبل الله منا ومنهم أم لا ؟ فأنزل الله جل ثناؤه فيهم : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " قال : صلاتكم قبل بيت المقدس : يقول : إن تلك طاعة وهذه طاعة .

2225 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : قال ناس - لما صرفت القبلة إلى البيت الحرام - : كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى ؟ فأنزل الله تعالى ذكره : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " الآية .

2226 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج ، أخبرني داود بن أبي عاصم قال : لما صرف رسول الله صلى الله [ ص: 169 ] عليه وسلم إلى الكعبة ، قال المسلمون : هلك أصحابنا الذين كانوا يصلون إلى بيت المقدس ! فنزلت : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " .

2227 - حدثنا محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " ، يقول : صلاتكم التي صليتموها من قبل أن تكون القبلة . فكان المؤمنون قد أشفقوا على من صلى منهم أن لا تقبل صلاتهم .

2228 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " ، صلاتكم .

2229 - حدثنا محمد بن إسماعيل الفزاري قال : أخبرنا المؤمل قال : حدثنا سفيان ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب في هذه الآية : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " قال : صلاتكم نحو بيت المقدس .

قال أبو جعفر : قد دللنا فيما مضى على أن "الإيمان " التصديق . وأن التصديق قد يكون بالقول وحده ، وبالفعل وحده ، وبهما جميعا .

فمعنى قوله : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " - على ما تظاهرت به الرواية من أنه الصلاة - : وما كان الله ليضيع تصديق رسوله عليه السلام ، بصلاتكم التي صليتموها نحو بيت المقدس عن أمره ، لأن ذلك كان منكم تصديقا لرسولي ، واتباعا لأمري ، وطاعة منكم لي .

قال : "وإضاعته إياه " جل ثناؤه - لو أضاعه - : ترك إثابة أصحابه وعامليه عليه ، فيذهب ضياعا ، ويصير باطلا كهيئة "إضاعة الرجل ماله " ، وذلك إهلاكه إياه فيما لا يعتاض منه عوضا في عاجل ولا آجل . [ ص: 170 ]

فأخبر الله جل ثناؤه أنه لم يكن يبطل عمل عامل عمل له عملا وهو له طاعة ، فلا يثيبه عليه ، وإن نسخ ذلك الفرض بعد عمل العامل إياه على ما كلفه من عمله .

فإن قال قائل : وكيف قال الله جل ثناؤه : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " ، فأضاف الإيمان إلى الأحياء المخاطبين ، والقوم المخاطبون بذلك إنما كانوا أشفقوا على إخوانهم الذين كانوا ماتوا وهم يصلون نحو بيت المقدس ، وفي ذلك من أمرهم أنزلت هذه الآية ؟

قيل : إن القوم وإن كانوا أشفقوا من ذلك ، فإنهم أيضا قد كانوا مشفقين من حبوط ثواب صلاتهم التي صلوها إلى بيت المقدس قبل التحويل إلى الكعبة ، وظنوا أن عملهم ذلك قد بطل وذهب ضياعا ؟ فأنزل الله جل ثناؤه هذه الآية حينئذ ، فوجه الخطاب بها إلى الأحياء ودخل فيهم الموتى منهم . لأن من شأن العرب - إذا اجتمع في الخبر المخاطب والغائب - أن يغلبوا المخاطب فيدخل الغائب في الخطاب . فيقولوا لرجل خاطبوه على وجه الخبر عنه وعن آخر غائب غير حاضر : "فعلنا بكما وصنعنا بكما " ، كهيئة خطابهم لهما وهما حاضران ، ولا يستجيزون أن يقولوا : "فعلنا بهما " ، وهم يخاطبون أحدهما ، فيردوا المخاطب إلى عداد الغيب .

التالي السابق


الخدمات العلمية