nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=17nindex.php?page=treesubj&link=28975_19718_19716إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=18وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما [ ص: 361 ] لما ذكر - تعالى - أن التوبة مع الإصلاح تقتضي ترك العقوبة على الذنب في الدنيا ووصف نفسه بالتواب الرحيم ، أي الذي يقبل التوبة من عباده كثيرا ، ويعفو بها عنهم - عقب ذلك ببيان شرط قبول التوبة فقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=17إنما التوبة على الله أي إن
nindex.php?page=treesubj&link=32478التوبة التي أوجب الله - تعالى - قبولها على نفسه بوعده الذي هو أثر كرمه ، وفضله ليست إلا
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=17للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فالسوء : هو العمل القبيح الذي يسوء فاعله إذا كان عاقلا سليم الفطرة كريم النفس ، أو يسوء الناس ، ويصدق على الصغائر والكبائر . والجهالة : الجهل وتغلب في السفاهة التي تلابس النفس عند ثورة الشهوة ، أو سورة الغضب فتذهب بالحلم ، وتنسي الحق ، والمراد بالزمن القريب : الوقت الذي تسكن تلك الثورة ، أو تنكسر به تلك السورة ، ويثوب إلى فاعل السيئة حلمه ، ويرجع إليه دينه وعقله ، وذهب جمهور المفسرين إلى تفسير الزمن القريب بما قبل حضور الموت ، واحتجوا على ذلك بالآية الثانية التي تنفي قبول توبة الذين يتوبون إذا حضر أحدهم الموت . وليس ذلك بحجة لهم ; لأن الظاهر أن هذه الآية بينت
nindex.php?page=treesubj&link=19721الوقت الذي تقبل فيه التوبة من كل مذنب حتما ، والآية الثانية بينت الوقت الذي لا تقبل فيه توبة مذنب قط ، وما بين الوقتين مسكوت عنه ، وهو محل الرجاء والخوف ، فكلما قرب وقت التوبة من وقت اقتراف الذنب كان الرجاء أقوى ، وكلما بعد الوقت بالإصرار ، وعدم المبالاة ، والتسويف كان الخوف من عدم القبول هو الأرجح ; لأن الإصرار قد ينتهي قبل حضور الموت بالرين ، والختم ، وإحاطة الخطيئة ، وقد سبق بيان ذلك في تفسير سورة البقرة . فراجع تفسير
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=7ختم الله على قلوبهم [ 2 : 7 ] وتفسير
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=81بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته [ 2 : 81 ] من الجزء الأول ، وكذا في تفسير آل عمران [ راجع ص120 و 300 وما بعدها ج 1 وكذا ص300 وما بعدها ج 3 ط الهيئة المصرية العامة للكتاب ] وسنعيد بيانه أيضا . وكم غرت هذه العبارة الناس وجرأتهم على الإصرارعلى الذنوب ، والآثام ، وأوهمتهم أن المؤمن لا يضره أن يصر على المعاصي طول حياته إذا تاب قبل بلوغ روحه الحلقوم ، فصار المغرورون يسوفون بالتوبة حتى يوبقهم التسويف ، فيموتوا قبل أن يتمكنوا من التوبة ، وما يجب أن تقرن به من إصلاح النفس بالعمل الصالح ، كما في الآية السابقة ، وآيات أخرى في معناها ، كقوله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=82وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى [ 20 : 82 ] وقوله في حكاية دعاء الملائكة للمؤمنين :
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=7ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك [ 40 : 7 ] ولا ينافي ذلك ما ورد من الأحاديث ، والآثار في
nindex.php?page=treesubj&link=19722_19727_19707قبول التوبة إلى ما قبل الغرغرة . كحديث
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر عند
أحمد ،
nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي :
nindex.php?page=hadith&LINKID=919055إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر فإن المقصود من هذا أنه لا يجوز لأحد أن يقنط من رحمة ربه ، وييأس من قبوله إياه إذا هو تاب وأناب إليه ما دام حيا ، وليس
[ ص: 362 ] معناه : أنه لا خوف على العبد من التمادي في الذنوب إذا هو تاب قبيل الموت ولو بساعة ; فإن حمله على هذا المعنى مخالف لهدي كتاب الله في الآيات التي ذكرنا بعضها آنفا ، ولسننه في خلق الإنسان من حيث إن نفسه تتدنس بالذنوب بالتدريج ، فإذا طال الأمد على مزاولتها لها تتمكن فيها ، وترسخ ، فلا تزول إلا بتزكيتها بالعمل الصالح في زمن طويل يناسب زمن الدنس مع ترك أسباب الدنس ، وأما الترك وحده فلا يكفي ، كما إذا وردت الأقذار ، والأدناس الحسية على ثوب زمنا طويلا ، فإنه لا ينظف بمجرد انقطاعها عنه . على أن المعاصي إذا تكررت تصير عادات تملك على النفس أمرها حتى تصير التوبة بمجرد الترك من أعسر الأمور وأشقها ; لأنها تكون عبارة عن اقتلاع الملكات التي تكيف بها المجموع العصبي ، فما أخسر صفقة المسوفين الذين يغترون بكلام أسرى العبارات وغير المفسرين !
الأستاذ الإمام : ذكر في الآية السابقة التوبة ، وبين في هذه الآية حكمها ، وحالها ترغيبا فيها ، وتنفيرا عن المعصية بما شدد في شرط قبولها ، وفيه إرشاد لأولياء الأمر إلى الطريق الذي يسلكونه مع العصاة في معاقبتهم ، وتأديبهم ، فإنه فرض في الآية السابقة
nindex.php?page=treesubj&link=19725معاقبة أهل الفواحش ، وأمر بالإعراض عمن تاب بشرط إصلاح العمل . وكأن هذه الآية شرح لذلك الإصلاح أي إن تابوا مثل هذه التوبة فأعرضوا عنهم ، وكفوا عن عقابهم .
ويذكرون هاهنا مسألة الخلاف بين
المعتزلة وأهل السنة في وجوب الصلاح عليه - تعالى - . والقول الفصل في ذلك : أن قبول هذه التوبة على الله - تعالى - ليس بإيجاب موجب له سلطة يوجب بها على الله ، تعالى الله عن ذلك ! وإنما ذلك من جملة الكمال الذي أوجبه - تعالى - على نفسه بمشيئته ، واختياره ، وهذه العبارة وأمثالها مما ظاهره وجوب بعض الأشياء على الله قد جاءت على طريق العرب في التخاطب ، ولا يفهم منها إلا أن ذلك واقع ماله من دافع ، ولكن بإيجاب الله - تعالى - له ، ولا يمكن أن يظن عاقل أن قانونا يحكم على الألوهية . فجعل الخلاف في هذه المسألة لفظيا ظاهرا لا تكلف فيه .
والسوء هو العمل القبيح ، والجهالة : تصدق بمعنى السفاهة ، وبمعنى الجهل الذي هو ضد العلم ، فالسفاهة إنما سميت سفاهة لأن صاحبها يجهل عاقبتها الرديئة ، أو يجهل مصلحة نفسه ، وقال بعضهم : المراد بالجهالة هنا : العصيان ، والمخالفة ، وعبر عن ذلك بالجهالة لبيان قبحه ، ولتضمنه للجهالة ، وتنزيل العاصي منزلة الجاهل بمصلحة نفسه ، وقال بعضهم : إن المراد بها عدم العلم التام بمقدار ما يترتب على عمل السوء من العقاب لا تعمد العصيان ، وذلك أن ناقص العلم بحقيقة الذنوب ، ووجه ترتب العقاب عليها ، ودرجة ذلك العقاب وتحتمه يقع في الذنب ، ويعمل السوء باختياره غير مغلوب على أمره ، وهو يظن أنه عمل ما فيه الخير والنفع لنفسه ، كاللص يعلم أن السرقة محرمة ، ولكنه لا يعلم أن العقاب عليها حتم ; لأن
[ ص: 363 ] عنده احتمالات من العلم الناقص تشككه فيما ورد من وعيد السارق ، كشفاعة الشفعاء من المشايخ ، والجيران الصالحين ، وكاحتمال العفو والمغفرة ، وكالمكفرات . فإذا عرض له شيء يسرقه ، وتذكر الوعيد على السرقة ينتصب في ذهنه ميزان الترجيح بين الانتفاع العاجل بما يسرقه ، والعقاب الآجل على هذه المعصية ، فإذا عرض له الشك في العقاب رجحت كفة داعية السرقة ; لأن الانتفاع بالمسروق يقيني ، والعقاب عليه مشكوك فيه . وهكذا شأن الإنسان في جميع الأعمال الاختيارية لا يمكن أن يأتي شيئا منها إلا إذا كان يعتقد نفعه له ورجحانه على مقابله إن خطر في باله المقابل ، فعلم من هذا أن عمل السوء لا يمكن أن يصدر من الإنسان إلا مع التلبس بالجهل ، وعدم إقامة الميزان القسط في الترجيح بين الفعل والترك ، فهو لا يرتكب المعصية إلا جهلا بحقيقة الوعيد ، أو متأولا له يمثل ما أشرنا إليه من انتظار الشفاعة ، والمغفرة ، أو مغلوبا بشهوة ، أو بغضب ، فإذا زالت الجهالة عن قريب فتاب كانت توبته مقبولة حتما ، واختلفوا في الزمن القريب ، فعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، وغيره هو أن يتوب في حالة الصحة ، والأمل في الحياة . وعن
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير هو أن يتوب وهو مدرك يعقل ، وأشهر الأقوال : أن يتوب قبل الغرغرة .
ثم قال ما مثاله مع بسط وإيضاح : إن من كان قوي الإيمان بحيث لا تقع المعصية منه إلا عن بادرة غضب ، أو شهوة ، أو جهل بأنها معصية تستوجب العقوبة ، فهو من أولئك الذين لا يقع منهم عمل السوء إلا هفوة بعد هفوة ، ولا يلبثون أن يبادروا إلى التوبة ; ولذلك ذكر السوء مفردا ، وقال فيمن لا تقبل توبتهم :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=18يعملون السيئات بالجمع ، فأشعرنا أن التوبة إنما تقبل حتما ممن تقع الذنوب منهم أفذاذا ، ويلم واحدهم بها إلماما ، ولكنه لا يصر عليها ، بل يبادر إلى التوبة منها ، ثم قد يطوف به بعد التوبة طائف آخر من الشيطان ، فيعود ثانية إلى العصيان ، ويتبعه التوبة والإحسان فلا تتمكن من نفسه ظلمة المعصية ، ولا تحيط به الخطيئة ، فالصواب أن يفسر قوله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=17من قريب بالقرب من زمن الذنب ، وهو المتبادر من اللفظ عند أهل اللغة ، والمذنب التائب أحد رجلين : رجل عارف بتحريم الذنب ولكن تلم به تلك الجهالة التي تحدث الرعونة في الإرادة ، فيقع في الذنب ، ثم يثوب إليه علمه فيؤثر في نفسه فيتوب . ورجل وقع في الذنب وهو لا يعلم أنه محرم ، ولكنه على جهله ببعض أمور الدين ليس راضيا بجهله ، ولا مهملا لأمر دينه ، بل هو يبحث ويسأل ويتعلم فلا يطول عليه الأمد حتى يعلم أن ما كان ألم به محرم فيتوب منه حالا . فكل من هذين يصدق عليه أنه تاب من قريب . فالقرب ليس له حد محدود ، وإنما هو أمر نسبي ، فمن أصر على عمل السوء زمنا طويلا لجهله بأنه معصية محرمة ، ثم علم فتاب ، فلا شك أن الله - تعالى -
[ ص: 364 ] يقبل توبته ، وقد يصدق عليه أنه تاب من قريب بالنسبة إلى زمن العلم ، ثم ذكر شيئا من كلام
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي في حقيقة التوبة وأركانها .
أقول : إن هاهنا شيئا يجب تدبره ، وهو الفرق بين من يعمل السوء وهو لا يعلم أنه سوء محرم عليه ، ومن يعمله عالما بذلك ، فالأول لا تتدنس نفسه بالعمل ، وإن طال عليه الزمن ، أي لا يكون ذلك العمل مجرئا لها على المعاصي موطنا لها على الشرور ، فإذا علم بعد ذلك أن عمله من السوء من حيث إنه ضار له أو لغيره ، أو من حيث إنه محرم عليه دينا ، وإن لم يعرف سبب تحريمه ، فإنه لا يعسر عليه غالبا أن يرجع عنه حالا ، وإن كان قد ألفه ; فإنه ما ألفه إلا من حيث إنه في نظره ، فملكة اختيار الحسن ، وإيثاره على السيئ تكون هي الغالبة عليه المصرفة لإرادته ، فلذلك يسهل عليه الرجوع من قريب متى جاء العلم الصحيح ، كما سهل على السابقين الأولين من الصحابة ( رضي الله عنهم ) أن يكونوا في الذروة العليا من الفضائل ، والفواضل وعمل الخير ، والتنزه عن الشر - على نشوئهم في الوثنية ، وعادات الجاهلية - فإنهم كانوا على ذلك ذوي سلامة في الفطرة ، وحب للخير ، وبغض للشر ، وما كان ينقصهم إلا العلم الصحيح بحقيقة الحسن ، والقبيح ، وكنه الخير والشر ، فلما جاءهم الإسلام سارعوا إليه ، وكانوا أكمل الناس به ، ولكن بعض المفسرين ينازع في كون من يعمل السوء جاهلا أنه سوء مرادا من الآية ، ويرى أن رجوعه عما كان عمله قبل العلم بكونه سوءا لا يسمى توبة ، وقد أشار إلى ذلك الأستاذ الإمام بقوله : " والتعبير بالسوء " إلخ ، ولكنه مع ذلك اختار كون لفظ الجهالة عاما يشمل عدم العلم بحرمته كما تقدم .
وأما من
nindex.php?page=treesubj&link=19725_28652يعمل السوء ، وهو يعتقد أنه سوء ، ويصر على المعصية ، وهو يعلم أنها معصية لله - عز وجل - ، ولكنه يتبع هوى نفسه ، ويؤثر إرضاء شهوتها وغضبها على رضوان الله ، ومنفعة عباده ، فذلك الذي تضرى نفسه بالشر وتأنس بالسوء ، ويصير ذلك ملكة لها مصرفة لإرادتها في أعمالها حتى تصل الدركة التي تتعذر معها التوبة ، وهي التي عبر عنها القرآن الحكيم بالختم على القلوب ، والرين عليها ، والطبع عليها ، وإحاطة الخطيئة بها ، وضرب لها النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل النكتة السوداء ، وتقدم شيء من بيان ذلك آنفا ومن قبل في مواضع كثيرة .
وقد سئلت مرة : لماذا لم تفسد أخلاق اليابانيين ، وتنحط هممهم ، وتصغر نفوسهم مع فشو الزنا فيهم ؟ فقلت : لأنهم يأتونه غير معتقدين حرمته دينا ، ولا قبحه عقلا ; ولذلك يكون ضرره في الأخلاق قليلا ، ولكن ضرره في الصحة والاجتماع كبير على كل حال .
ونعود إلى كلام الأستاذ الإمام قال ما مثاله : إنهم يقسمون التائبين إلى طبقات . ويقولون : إن الإنسان عريق في الشر كأنه عجن بطينته ; ذلك أن الشهوات الحيوانية تسبق
[ ص: 365 ] فيه الشهوات العقلية ، فهو يألف الشهوات أولا ، ثم يجيء العقل ليضع لتلك الشهوات النظام والقوانين ، والعلم بما شرع فيها من هداية الدين ، ومجاهدة النفس على امتثال الأوامر واجتناب النواهي ، فكل إنسان له هفوة قبل أن يستحصف العقل ويفقه أسرار النقل ، فمن الناس من هو كبير النفس ، عالي الاستعداد إذا وقع في الخطيئة مرة كان له منها أكبر عبرة ، وهو لا يقع فيها إلا وهو غافل عن عواقبها ومصورا إياها بصورة أحسن من صورتها ، وأنتم تعلمون أن الإنسان لا يعرف مقدار الشيء قبيل الدخول فيه ، فإذا ألم العاقل السليم الفطرة بالذنب ، وذاق لذته عرف حقيقته ، وعند ذلك يعود إليه علمه الذي حجبته عنه الشهوة ، ويقوى في نفسه ما كان ضعف من نور البصيرة ، فيوازن بين هذه اللذة ، وبين قبح المعصية ، وما لها من سوء العاقبة ، فيظهر له من مهانة نفسه ، وسوء اختياره ما عسى أن يصير إليه أمره إذا عاد إلى ذلك ، واعتاده وعرف به فيندم ، ويقلع عن هذا الذنب وعن غيره ، ويحمل نفسه على الفضيلة ويصرفها عن كل رذيلة .
ومن الناس من تكون داعية الشهوة أقوى في نفوسهم ، وأرسخ ، فكلما أطاعوها في معصية قامت الخواطر الإلهية تحاربها بلوم صاحبها ، وتوبيخه حتى تنتصر عليها ، وتقهرها قهرا لا تقوم لها بعده قائمة ، وهؤلاء يعدون من التوابين أيضا ، ومنهم فرقة تقوى بالمجاهدة على اجتناب كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم فتكون الحرب في نفوسهم سجالا بين ما يلمون به من الضمائر ، وبين الخواطر الإلهية التي هي جند الإيمان .
وكثير من الناس يقع في ذلك الذنب فيتوب ويستغفر ، ثم يعرض له مرة أخرى فيعود إليه ، يلوم نفسه ، ويندم ، ويستغفر ، وهلم جرا ، فهؤلاء في أدنى طبقات التوابين . والنفس الباقية أرخص عندهم من النفس الفانية ، وهم مع ذلك محل للرجاء ; لأن لهم زاجرا من أنفسهم يذكرهم دائما بالرجوع إلى الله - تعالى - عقب كل خطيئة ، فيوشك أن يقوى هذا الزاجر المذكر على الشهوات المزينة للخطيئة ، فإن كان تكرار الإثم يزيد الشهوة ضراوة ، والنفس جرأة فتكرار تذكير العلم الصحيح يحدث فيها ألما يقاوم تلك الضراوة بتقريع النفس وتحقيرها وتصوير سوء العاقبة لها ، فتكون الحرب سجالا ، وأثر الآلام في النفس أقوى من أثر اللذات فإما أن تنتصر الخواطر والزواجر الإلهية بذلك فيلحق صاحب هذه النفس ببعض تلك الطبقات التي صحت توبتها ، وإما أن تنكسر أمام جند الشهوة حتى تحيط بصاحبها الخطيئة فيكون من المصرين الهالكين .
ثم قال - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=17فأولئك يتوب الله عليهم الفاء للسببية ، أي أولئك الموصفون بأنهم يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ، فإذا تراخت توبتهم لا يطول عليها الزمن ولا يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون - يتوب الله - تعالى - عليهم بسبب ذينك الأمرين وهما
[ ص: 366 ] كون فعل السوء لم يكن إلا عن جهالة ; إذ مثلهم في إيمانهم ، وتقواهم لا يعتمد الذنب مع الروية ، وكون التوبة قريبة من زمن الذنب لم تدع له مجالا يرسخ به في النفس ، ويجوز أن تجعل معنى السببية مفرعا عن ذلك الأصل المقرر في صدر الآية ، وهو كون قبول توبة هؤلاء مما أوجبه الله - تعالى - على نفسه بمقتضى رحمته ، وعلمه ، وحكمته ، أي فأولئك يتوب عليهم قطعا ; لأن قبول توبتهم مقرر حتما ، وموعود به وعدا مقضيا .
وقال الأستاذ الإمام : أشار إليهم بعد حصر التوبة المقبولة لهم لتأكيد ذلك الحصر ، ولاستحضارهم في الذهن عند الحكم حتى لا يخطر في بال القارئ والسامع إشراك غيرهم معهم فيه ، وضمن التوبة معنى العطف ، أي يعطف عليهم بقبول توبتهم ويعود برحمته عليهم .
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=17nindex.php?page=treesubj&link=28975_28781وكان الله عليما حكيما فمن علمه بشئون عباده ، ومصالحهم ، وحكمته فيما شرعه لهم أنه جعل التوبة بشرطيها مقبولة حتما ; لأنه يعلم أنهم لضعفهم لا يسلمون من عمل السوء ، فلو لم يكن للعاصي توبة لفسد الناس ، وهلكوا ; لأن من يعمل السوء بجهالة من ثورة شهوة ، أو سورة غضب يسترسل حينئذ في المعاصي ، والسيئات ، ويتعمد اتباع الهوى ، وخطوات الشيطان لعلمه أنه هالك على كل حال فلا فائدة له من مجاهدة نفسه وتزكيتها ، أما وقد شرع الله - تعالى - بحكمته قبول التوبة ، فقد فتح لهم باب الفضيلة ، وهداهم إلى محو السيئة بالحسنة ، ولو كان كل ذنب يغفر ، وكل سيئة يعفى عنها لما آثر الناس الخير على الشر إلا حيث تكون شهواتهم ومهب أهوائهم ، ثم إنه - تعالى - يعلم التوبة النصوح ، والتوبة الخادعة الكذوب ; لأنه يعلم خائنة الأعين ، وما تخفي الصدور ، ومن حكمته أنه لا يقبل إلا التوبة النصوح دون حركة اللسان بالاستغفار ، والإتيان ببعض المكفرات من الصدقات ، أو الأذكار ، مع الإصرار على الذنوب والأوزار ،
nindex.php?page=treesubj&link=29493_21482_30525فالمقيم على الذنب لا تطهر نفسه من دنسه بعمل طاعة أخرى ، وإن أحسن فيها ، وأخلص ، فكيف من يكون عمله لها صوريا تقليديا لا يمس سواد قلبه قط ، ولا يدل على عنايته بأمر الدين ، ولا خشيته لله رب العالمين ، كألفاظ الاستغفار والتسبيح ! ولذلك جمع في الآية السابقة بين التوبة ، وإصلاح العمل ، وذكرنا بعض الآيات التي في معناها . وإن أردت الزيادة في هذا المعنى فراجع تفسير ما تقدم من الآيات كقوله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=16فاغفر لنا ذنوبنا - إلى قوله -
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=17والمستغفرين بالأسحار [ 3 : 16 ، 17 ] وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=135والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم [ 3 : 135 ] وقد أشار الأستاذ الإمام هنا إلى نكتة ذكر صفة العلم ، وصفة الحكمة هنا بقريب مما ذكرناه ، وذكر غرور الجاهلين من الخلف الطالح بالأذكار القولية ، واعتمادهم عليها ، وظنهم أنها تنجيهم في
[ ص: 367 ] الآخرة من المؤاخذة على الذنوب ، وإن أصروا عليها ، وقال : إن مثل هذا كان معهودا في الأديان السابقة ، وذلك أن الأمم استثقلت التكاليف لجهلها بفائدتها ، ففسقت عن أمر ربها ، واتبعت أهواءها ، وجعلت حظها من الدين بعض الأذكار ، والأوراد السهلة التي لا تمنعها من شهواتها وأهوائها شيئا ، فصار الدين عند أكثرهم عبارة عن حركات لسانية ، وبدنية لا تهذب خلقا ، ولا تصلح عملا ، وقد اتبع الكثيرون منا سننهم شبرا بشبر ، وذراعا بذراع
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=24أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها [ 47 : 24 ]
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=17nindex.php?page=treesubj&link=28975_19718_19716إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=18وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [ ص: 361 ] لَمَّا ذَكَرَ - تَعَالَى - أَنَّ التَّوْبَةَ مَعَ الْإِصْلَاحِ تَقْتَضِي تَرْكَ الْعُقُوبَةِ عَلَى الذَّنْبِ فِي الدُّنْيَا وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالتَّوَّابِ الرَّحِيمِ ، أَيِ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مِنْ عِبَادِهِ كَثِيرًا ، وَيَعْفُو بِهَا عَنْهُمْ - عَقَّبَ ذَلِكَ بِبَيَانِ شَرْطِ قَبُولِ التَّوْبَةِ فَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=17إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ أَيْ إِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=32478التَّوْبَةَ الَّتِي أَوْجَبَ اللَّهُ - تَعَالَى - قَبُولَهَا عَلَى نَفْسِهِ بِوَعْدِهِ الَّذِي هُوَ أَثَرُ كَرَمِهِ ، وَفَضْلِهِ لَيْسَتْ إِلَّا
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=17لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَالسُّوءُ : هُوَ الْعَمَلُ الْقَبِيحُ الَّذِي يَسُوءُ فَاعِلَهُ إِذَا كَانَ عَاقِلًا سَلِيمَ الْفِطْرَةِ كَرِيمَ النَّفْسِ ، أَوْ يَسُوءُ النَّاسَ ، وَيَصْدُقُ عَلَى الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ . وَالْجَهَالَةُ : الْجَهْلُ وَتَغْلِبُ فِي السَّفَاهَةِ الَّتِي تُلَابِسُ النَّفْسَ عِنْدَ ثَوْرَةِ الشَّهْوَةِ ، أَوْ سَوْرَةِ الْغَضَبِ فَتَذْهَبُ بِالْحِلْمِ ، وَتُنْسِي الْحَقَّ ، وَالْمُرَادُ بِالزَّمَنِ الْقَرِيبِ : الْوَقْتُ الَّذِي تَسْكُنُ تِلْكَ الثَّوْرَةُ ، أَوْ تَنْكَسِرُ بِهِ تِلْكَ السَّوْرَةُ ، وَيَثُوبُ إِلَى فَاعِلِ السَّيِّئَةِ حِلْمُهُ ، وَيَرْجِعُ إِلَيْهِ دِينُهُ وَعَقْلُهُ ، وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى تَفْسِيرِ الزَّمَنِ الْقَرِيبِ بِمَا قَبْلَ حُضُورِ الْمَوْتِ ، وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالْآيَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي تَنْفِي قَبُولَ تَوْبَةِ الَّذِينَ يَتُوبُونَ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ . وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحُجَّةٍ لَهُمْ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ بَيَّنَتِ
nindex.php?page=treesubj&link=19721الْوَقْتَ الَّذِي تُقْبَلُ فِيهِ التَّوْبَةُ مِنْ كُلِّ مُذْنِبٍ حَتْمًا ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ بَيَّنَتِ الْوَقْتَ الَّذِي لَا تُقْبَلُ فِيهِ تَوْبَةُ مُذْنِبٍ قَطُّ ، وَمَا بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ مَسْكُوتٌ عَنْهُ ، وَهُوَ مَحَلُّ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ ، فَكُلَّمَا قَرُبَ وَقْتُ التَّوْبَةِ مِنْ وَقْتِ اقْتِرَافِ الذَّنْبِ كَانَ الرَّجَاءُ أَقْوَى ، وَكُلَّمَا بَعُدَ الْوَقْتُ بِالْإِصْرَارِ ، وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ ، وَالتَّسْوِيفِ كَانَ الْخَوْفُ مِنْ عَدَمِ الْقَبُولِ هُوَ الْأَرْجَحُ ; لِأَنَّ الْإِصْرَارَ قَدْ يَنْتَهِي قَبْلَ حُضُورِ الْمَوْتِ بِالرَّيْنِ ، وَالْخَتْمِ ، وَإِحَاطَةِ الْخَطِيئَةِ ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ . فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=7خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [ 2 : 7 ] وَتَفْسِيرَ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=81بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [ 2 : 81 ] مِنَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ ، وَكَذَا فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ [ رَاجِعْ ص120 و 300 وَمَا بَعْدَهَا ج 1 وَكَذَا ص300 وَمَا بَعْدَهَا ج 3 ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ ] وَسَنُعِيدُ بَيَانَهُ أَيْضًا . وَكَمْ غَرَّتْ هَذِهِ الْعِبَارَةُ النَّاسَ وَجَرَّأَتْهُمْ عَلَى الْإِصْرَارِعَلَى الذُّنُوبِ ، وَالْآثَامِ ، وَأَوْهَمَتْهُمْ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَضُرُّهُ أَنْ يُصِرَّ عَلَى الْمَعَاصِي طُولَ حَيَاتِهِ إِذَا تَابَ قَبْلَ بُلُوغِ رُوحِهِ الْحُلْقُومَ ، فَصَارَ الْمَغْرُورُونَ يُسَوِّفُونَ بِالتَّوْبَةِ حَتَّى يُوبِقَهُمُ التَّسْوِيفُ ، فَيَمُوتُوا قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ التَّوْبَةِ ، وَمَا يَجِبُ أَنْ تُقْرَنَ بِهِ مِنْ إِصْلَاحِ النَّفْسِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ ، كَمَا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ ، وَآيَاتٍ أُخْرَى فِي مَعْنَاهَا ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=82وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [ 20 : 82 ] وَقَوْلِهِ فِي حِكَايَةِ دُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=7رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينِ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ [ 40 : 7 ] وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ ، وَالْآثَارِ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=19722_19727_19707قَبُولِ التَّوْبَةِ إِلَى مَا قَبْلَ الْغَرْغَرَةِ . كَحَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=12ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ
أَحْمَدَ ،
nindex.php?page=showalam&ids=13948وَالتِّرْمِذِيِّ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=919055إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْنُطَ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ ، وَيَيْأَسَ مِنْ قَبُولِهِ إِيَّاهُ إِذَا هُوَ تَابَ وَأَنَابَ إِلَيْهِ مَا دَامَ حَيًّا ، وَلَيْسَ
[ ص: 362 ] مَعْنَاهُ : أَنَّهُ لَا خَوْفَ عَلَى الْعَبْدِ مِنَ التَّمَادِي فِي الذُّنُوبِ إِذَا هُوَ تَابَ قُبَيْلَ الْمَوْتِ وَلَوْ بِسَاعَةٍ ; فَإِنَّ حَمْلَهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مُخَالِفٌ لِهَدْيِ كِتَابِ اللَّهِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا بَعْضَهَا آنِفًا ، وَلِسُنَنِهِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ نَفْسَهُ تَتَدَنَّسُ بِالذُّنُوبِ بِالتَّدْرِيجِ ، فَإِذَا طَالَ الْأَمَدُ عَلَى مُزَاوَلَتِهَا لَهَا تَتَمَكَّنُ فِيهَا ، وَتَرْسَخُ ، فَلَا تَزُولُ إِلَّا بِتَزْكِيَتِهَا بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي زَمَنٍ طَوِيلٍ يُنَاسِبُ زَمَنَ الدَّنَسِ مَعَ تَرْكِ أَسْبَابِ الدَّنَسِ ، وَأَمَّا التَّرْكُ وَحْدَهُ فَلَا يَكْفِي ، كَمَا إِذَا وَرَدَتِ الْأَقْذَارُ ، وَالْأَدْنَاسُ الْحِسِّيَّةُ عَلَى ثَوْبٍ زَمَنًا طَوِيلًا ، فَإِنَّهُ لَا يُنَظَّفُ بِمُجَرَّدِ انْقِطَاعِهَا عَنْهُ . عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ إِذَا تَكَرَّرَتْ تَصِيرُ عَادَاتٍ تَمْلِكُ عَلَى النَّفْسِ أَمْرَهَا حَتَّى تَصِيرَ التَّوْبَةُ بِمُجَرَّدِ التَّرْكِ مِنْ أَعْسَرِ الْأُمُورِ وَأَشَقِّهَا ; لِأَنَّهَا تَكُونُ عِبَارَةً عَنِ اقْتِلَاعِ الْمَلَكَاتِ الَّتِي تَكَيَّفَ بِهَا الْمَجْمُوعُ الْعَصَبِيُّ ، فَمَا أَخْسَرَ صَفْقَةَ الْمُسَوِّفِينَ الَّذِينَ يَغْتَرُّونَ بِكَلَامِ أَسْرَى الْعِبَارَاتِ وَغَيْرِ الْمُفَسِّرِينَ !
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : ذَكَرَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ التَّوْبَةَ ، وَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمَهَا ، وَحَالَهَا تَرْغِيبًا فِيهَا ، وَتَنْفِيرًا عَنِ الْمَعْصِيَةِ بِمَا شَدَّدَ فِي شَرْطِ قَبُولِهَا ، وَفِيهِ إِرْشَادٌ لِأَوْلِيَاءَ الْأَمْرِ إِلَى الطَّرِيقِ الَّذِي يَسْلُكُونَهُ مَعَ الْعُصَاةِ فِي مُعَاقَبَتِهِمْ ، وَتَأْدِيبِهِمْ ، فَإِنَّهُ فَرَضَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ
nindex.php?page=treesubj&link=19725مُعَاقَبَةَ أَهْلِ الْفَوَاحِشِ ، وَأَمَرَ بِالْإِعْرَاضِ عَمَّنْ تَابَ بِشَرْطِ إِصْلَاحِ الْعَمَلِ . وَكَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ شَرْحٌ لِذَلِكَ الْإِصْلَاحِ أَيْ إِنْ تَابُوا مِثْلَ هَذِهِ التَّوْبَةِ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ ، وَكُفُّوا عَنْ عِقَابِهِمْ .
وَيَذْكُرُونَ هَاهُنَا مَسْأَلَةَ الْخِلَافِ بَيْنَ
الْمُعْتَزِلَةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ فِي وُجُوبِ الصَّلَاحِ عَلَيْهِ - تَعَالَى - . وَالْقَوْلُ الْفَصْلُ فِي ذَلِكَ : أَنَّ قَبُولَ هَذِهِ التَّوْبَةِ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - لَيْسَ بِإِيجَابِ مُوجِبٍ لَهُ سُلْطَةٌ يُوجِبُ بِهَا عَلَى اللَّهِ ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ ! وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْكَمَالِ الَّذِي أَوْجَبَهُ - تَعَالَى - عَلَى نَفْسِهِ بِمَشِيئَتِهِ ، وَاخْتِيَارِهِ ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ وَأَمْثَالُهَا مِمَّا ظَاهِرُهُ وُجُوبُ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ عَلَى اللَّهِ قَدْ جَاءَتْ عَلَى طَرِيقِ الْعَرَبِ فِي التَّخَاطُبِ ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْهَا إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ مَالَهُ مِنْ دَافِعٍ ، وَلَكِنْ بِإِيجَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - لَهُ ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَظُنَّ عَاقِلٌ أَنَّ قَانُونًا يَحْكُمُ عَلَى الْأُلُوهِيَّةِ . فَجُعِلَ الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيًّا ظَاهِرًا لَا تَكَلُّفَ فِيهِ .
وَالسُّوءُ هُوَ الْعَمَلُ الْقَبِيحُ ، وَالْجَهَالَةُ : تَصْدُقُ بِمَعْنَى السَّفَاهَةِ ، وَبِمَعْنَى الْجَهْلِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْعِلْمِ ، فَالسَّفَاهَةُ إِنَّمَا سُمِّيَتْ سَفَاهَةً لِأَنَّ صَاحِبَهَا يَجْهَلُ عَاقِبَتَهَا الرَّدِيئَةَ ، أَوْ يَجْهَلُ مَصْلَحَةَ نَفْسِهِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْمُرَادُ بِالْجَهَالَةِ هُنَا : الْعِصْيَانُ ، وَالْمُخَالَفَةُ ، وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْجَهَالَةِ لِبَيَانِ قُبْحِهِ ، وَلِتَضَمُّنِهِ لِلْجَهَالَةِ ، وَتَنْزِيلِ الْعَاصِي مَنْزِلَةَ الْجَاهِلِ بِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا عَدَمُ الْعِلْمِ التَّامِّ بِمِقْدَارِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى عَمَلِ السُّوءِ مِنَ الْعِقَابِ لَا تَعَمُّدُ الْعِصْيَانِ ، وَذَلِكَ أَنَّ نَاقِصَ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الذُّنُوبِ ، وَوَجْهِ تَرَتُّبِ الْعِقَابِ عَلَيْهَا ، وَدَرَجَةِ ذَلِكَ الْعِقَابِ وَتَحَتُّمِهِ يَقَعُ فِي الذَّنْبِ ، وَيَعْمَلُ السُّوءَ بِاخْتِيَارِهِ غَيْرَ مَغْلُوبٍ عَلَى أَمْرِهِ ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ عَمِلَ مَا فِيهِ الْخَيْرُ وَالنَّفْعُ لِنَفْسِهِ ، كَاللِّصِّ يَعْلَمُ أَنَّ السَّرِقَةَ مُحَرَّمَةٌ ، وَلَكِنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الْعِقَابَ عَلَيْهَا حَتْمٌ ; لِأَنَّ
[ ص: 363 ] عِنْدَهُ احْتِمَالَاتٍ مِنَ الْعِلْمِ النَّاقِصِ تُشَكِّكُهُ فِيمَا وَرَدَ مِنْ وَعِيدِ السَّارِقِ ، كَشَفَاعَةِ الشُّفَعَاءِ مِنَ الْمَشَايِخِ ، وَالْجِيرَانِ الصَّالِحِينَ ، وَكَاحْتِمَالِ الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ ، وَكَالْمُكَفِّرَاتِ . فَإِذَا عَرَضَ لَهُ شَيْءٌ يَسْرِقُهُ ، وَتَذَكَّرَ الْوَعِيدَ عَلَى السَّرِقَةِ يَنْتَصِبُ فِي ذِهْنِهِ مِيزَانُ التَّرْجِيحِ بَيْنَ الِانْتِفَاعِ الْعَاجِلِ بِمَا يَسْرِقُهُ ، وَالْعِقَابِ الْآجِلِ عَلَى هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ ، فَإِذَا عَرَضَ لَهُ الشَّكُّ فِي الْعِقَابِ رَجَحَتْ كِفَّةُ دَاعِيَةِ السَّرِقَةِ ; لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْمَسْرُوقِ يَقِينِيٌّ ، وَالْعِقَابَ عَلَيْهِ مَشْكُوكٌ فِيهِ . وَهَكَذَا شَأْنُ الْإِنْسَانِ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ شَيْئًا مِنْهَا إِلَّا إِذَا كَانَ يَعْتَقِدُ نَفْعَهُ لَهُ وَرُجْحَانَهُ عَلَى مُقَابِلِهِ إِنْ خَطَرَ فِي بَالِهِ الْمُقَابِلُ ، فَعَلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ عَمَلَ السُّوءِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصْدُرَ مِنَ الْإِنْسَانِ إِلَّا مَعَ التَّلَبُّسِ بِالْجَهْلِ ، وَعَدَمِ إِقَامَةِ الْمِيزَانِ الْقِسْطِ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ ، فَهُوَ لَا يَرْتَكِبُ الْمَعْصِيَةَ إِلَّا جَهْلًا بِحَقِيقَةِ الْوَعِيدِ ، أَوْ مُتَأَوِّلًا لَهُ يُمَثِّلُ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنَ انْتِظَارِ الشَّفَاعَةِ ، وَالْمَغْفِرَةِ ، أَوْ مَغْلُوبًا بِشَهْوَةٍ ، أَوْ بِغَضَبٍ ، فَإِذَا زَالَتِ الْجَهَالَةُ عَنْ قَرِيبٍ فَتَابَ كَانَتْ تَوْبَتُهُ مَقْبُولَةً حَتْمًا ، وَاخْتَلَفُوا فِي الزَّمَنِ الْقَرِيبِ ، فَعَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَغَيْرِهِ هُوَ أَنْ يَتُوبَ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ ، وَالْأَمَلِ فِي الْحَيَاةِ . وَعَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنِ جَرِيرٍ هُوَ أَنْ يَتُوبَ وَهُوَ مُدْرِكٌ يَعْقِلُ ، وَأَشْهَرُ الْأَقْوَالِ : أَنْ يَتُوبَ قَبْلَ الْغَرْغَرَةِ .
ثُمَّ قَالَ مَا مِثَالُهُ مَعَ بَسْطٍ وَإِيضَاحٍ : إِنَّ مَنْ كَانَ قَوِيَّ الْإِيمَانِ بِحَيْثُ لَا تَقَعُ الْمَعْصِيَةُ مِنْهُ إِلَّا عَنْ بَادِرَةِ غَضَبٍ ، أَوْ شَهْوَةٍ ، أَوْ جَهْلٍ بِأَنَّهَا مَعْصِيَةٌ تَسْتَوْجِبُ الْعُقُوبَةَ ، فَهُوَ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ عَمَلُ السُّوءِ إِلَّا هَفْوَةً بَعْدَ هَفْوَةٍ ، وَلَا يَلْبَثُونَ أَنْ يُبَادِرُوا إِلَى التَّوْبَةِ ; وَلِذَلِكَ ذَكَرَ السُّوءَ مُفْرَدًا ، وَقَالَ فِيمَنْ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=18يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ بِالْجَمْعِ ، فَأَشْعَرَنَا أَنَّ التَّوْبَةَ إِنَّمَا تُقْبَلُ حَتْمًا مِمَّنْ تَقَعُ الذُّنُوبُ مِنْهُمْ أَفْذَاذًا ، وَيُلِمُّ وَاحِدُهُمْ بِهَا إِلْمَامًا ، وَلَكِنَّهُ لَا يُصِرُّ عَلَيْهَا ، بَلْ يُبَادِرُ إِلَى التَّوْبَةِ مِنْهَا ، ثُمَّ قَدْ يَطُوفُ بِهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ طَائِفٌ آخَرُ مِنَ الشَّيْطَانِ ، فَيَعُودُ ثَانِيَةً إِلَى الْعِصْيَانِ ، وَيُتْبِعُهُ التَّوْبَةَ وَالْإِحْسَانَ فَلَا تَتَمَكَّنُ مِنْ نَفْسِهِ ظُلْمَةُ الْمَعْصِيَةِ ، وَلَا تُحِيطُ بِهِ الْخَطِيئَةُ ، فَالصَّوَابُ أَنْ يُفَسَّرَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=17مِنْ قَرِيبٍ بِالْقُرْبِ مِنْ زَمَنِ الذَّنْبِ ، وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ اللَّفْظِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ ، وَالْمُذْنِبُ التَّائِبُ أَحَدُ رَجُلَيْنِ : رَجُلٌ عَارِفٌ بِتَحْرِيمِ الذَّنْبِ وَلَكِنْ تُلِمُّ بِهِ تِلْكَ الْجَهَالَةُ الَّتِي تُحْدِثُ الرُّعُونَةَ فِي الْإِرَادَةِ ، فَيَقَعُ فِي الذَّنْبِ ، ثُمَّ يَثُوبُ إِلَيْهِ عِلْمُهُ فَيُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهِ فَيَتُوبُ . وَرَجُلٌ وَقَعَ فِي الذَّنْبِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ ، وَلَكِنَّهُ عَلَى جَهْلِهِ بِبَعْضِ أُمُورِ الدِّينِ لَيْسَ رَاضِيًا بِجَهْلِهِ ، وَلَا مُهْمِلًا لِأَمْرِ دِينِهِ ، بَلْ هُوَ يَبْحَثُ وَيَسْأَلُ وَيَتَعَلَّمُ فَلَا يَطُولُ عَلَيْهِ الْأَمَدُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا كَانَ أَلَمَّ بِهِ مُحَرَّمٌ فَيَتُوبُ مِنْهُ حَالًا . فَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ . فَالْقُرْبُ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ مَحْدُودٌ ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ ، فَمَنْ أَصَرَّ عَلَى عَمَلِ السُّوءِ زَمَنًا طَوِيلًا لِجَهْلِهِ بِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ مُحَرَّمَةٌ ، ثُمَّ عَلِمَ فَتَابَ ، فَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى -
[ ص: 364 ] يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ ، وَقَدْ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى زَمَنِ الْعِلْمِ ، ثُمَّ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ كَلَامِ
nindex.php?page=showalam&ids=14847الْغَزَالِيِّ فِي حَقِيقَةِ التَّوْبَةِ وَأَرْكَانِهَا .
أَقُولُ : إِنَّ هَاهُنَا شَيْئًا يَجِبُ تَدَبُّرُهُ ، وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ يَعْمَلُ السُّوءَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ سُوءٌ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ ، وَمَنْ يَعْمَلُهُ عَالِمًا بِذَلِكَ ، فَالْأَوَّلُ لَا تَتَدَنَّسُ نَفْسُهُ بِالْعَمَلِ ، وَإِنْ طَالَ عَلَيْهِ الزَّمَنُ ، أَيْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ الْعَمَلُ مُجَرِّئًا لَهَا عَلَى الْمَعَاصِي مُوَطِّنًا لَهَا عَلَى الشُّرُورِ ، فَإِذَا عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ عَمَلَهُ مِنَ السُّوءِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ ضَارٌّ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ ، أَوْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ دِينًا ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ سَبَبَ تَحْرِيمِهِ ، فَإِنَّهُ لَا يَعْسُرُ عَلَيْهِ غَالِبًا أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ حَالًا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَلِفَهُ ; فَإِنَّهُ مَا أَلِفَهُ إِلَّا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فِي نَظَرِهِ ، فَمَلَكَةُ اخْتِيَارِ الْحَسَنِ ، وَإِيثَارِهِ عَلَى السَّيِّئِ تَكُونُ هِيَ الْغَالِبَةَ عَلَيْهِ الْمُصَرِّفَةَ لِإِرَادَتِهِ ، فَلِذَلِكَ يَسْهُلُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ مِنْ قَرِيبٍ مَتَى جَاءَ الْعِلْمُ الصَّحِيحُ ، كَمَا سَهُلَ عَلَى السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ) أَنْ يَكُونُوا فِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنَ الْفَضَائِلِ ، وَالْفَوَاضِلِ وَعَمَلِ الْخَيْرِ ، وَالتَّنَزُّهِ عَنِ الشَّرِّ - عَلَى نُشُوئِهِمْ فِي الْوَثَنِيَّةِ ، وَعَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ - فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى ذَلِكَ ذَوِي سَلَامَةٍ فِي الْفِطْرَةِ ، وَحُبٍّ لِلْخَيْرِ ، وَبُغْضٍ لِلشَّرِّ ، وَمَا كَانَ يَنْقُصُهُمْ إِلَّا الْعِلْمُ الصَّحِيحُ بِحَقِيقَةِ الْحَسَنِ ، وَالْقَبِيحِ ، وَكُنْهِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ ، فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْإِسْلَامُ سَارَعُوا إِلَيْهِ ، وَكَانُوا أَكْمَلَ النَّاسِ بِهِ ، وَلَكِنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ يُنَازِعُ فِي كَوْنِ مَنْ يَعْمَلُ السُّوءَ جَاهِلًا أَنَّهُ سُوءٌ مُرَادًا مِنَ الْآيَةِ ، وَيَرَى أَنَّ رُجُوعَهُ عَمَّا كَانَ عَمِلَهُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ سُوءًا لَا يُسَمَّى تَوْبَةً ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِقَوْلِهِ : " وَالتَّعْبِيرُ بِالسُّوءِ " إلخ ، وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ اخْتَارَ كَوْنَ لَفْظِ الْجَهَالَةِ عَامًّا يَشْمَلُ عَدَمَ الْعِلْمِ بِحُرْمَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَأَمَّا مَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=19725_28652يَعْمَلُ السُّوءَ ، وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ سُوءٌ ، وَيُصِرُّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - ، وَلَكِنَّهُ يَتَّبِعُ هَوَى نَفْسِهِ ، وَيُؤْثِرُ إِرْضَاءَ شَهْوَتِهَا وَغَضَبِهَا عَلَى رِضْوَانِ اللَّهِ ، وَمَنْفَعَةِ عِبَادِهِ ، فَذَلِكَ الَّذِي تَضْرَى نَفْسُهُ بِالشَّرِّ وَتَأْنَسُ بِالسُّوءِ ، وَيَصِيرُ ذَلِكَ مَلَكَةً لَهَا مُصَرِّفَةً لِإِرَادَتِهَا فِي أَعْمَالِهَا حَتَّى تَصِلَ الدَّرَكَةَ الَّتِي تَتَعَذَّرُ مَعَهَا التَّوْبَةُ ، وَهِيَ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ بِالْخَتْمِ عَلَى الْقُلُوبِ ، وَالرَّيْنِ عَلَيْهَا ، وَالطَّبْعِ عَلَيْهَا ، وَإِحَاطَةِ الْخَطِيئَةِ بِهَا ، وَضَرَبَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَثَلَ النُّكْتَةِ السَّوْدَاءِ ، وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ بَيَانِ ذَلِكَ آنِفًا وَمِنْ قَبْلُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ .
وَقَدْ سُئِلْتُ مَرَّةً : لِمَاذَا لَمْ تَفْسَدْ أَخْلَاقُ الْيَابَانِيِّينَ ، وَتَنْحَطَّ هِمَمُهُمْ ، وَتَصْغُرْ نُفُوسُهُمْ مَعَ فُشُوِّ الزِّنَا فِيهِمْ ؟ فَقُلْتُ : لِأَنَّهُمْ يَأْتُونَهُ غَيْرَ مُعْتَقِدِينَ حُرْمَتَهُ دِينًا ، وَلَا قُبْحَهُ عَقْلًا ; وَلِذَلِكَ يَكُونُ ضَرَرُهُ فِي الْأَخْلَاقِ قَلِيلًا ، وَلَكِنَّ ضَرَرَهُ فِي الصِّحَّةِ وَالِاجْتِمَاعِ كَبِيرٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ .
وَنَعُودُ إِلَى كَلَامِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ قَالَ مَا مِثَالُهُ : إِنَّهُمْ يُقَسِّمُونَ التَّائِبِينَ إِلَى طَبَقَاتٍ . وَيَقُولُونَ : إِنَّ الْإِنْسَانَ عَرِيقٌ فِي الشَّرِّ كَأَنَّهُ عُجِنَ بِطِينَتِهِ ; ذَلِكَ أَنَّ الشَّهَوَاتِ الْحَيَوَانِيَّةَ تَسْبِقُ
[ ص: 365 ] فِيهِ الشَّهَوَاتِ الْعَقْلِيَّةَ ، فَهُوَ يَأْلَفُ الشَّهَوَاتِ أَوَّلًا ، ثُمَّ يَجِيءُ الْعَقْلُ لِيَضَعَ لِتِلْكَ الشَّهَوَاتِ النِّظَامَ وَالْقَوَانِينَ ، وَالْعِلْمَ بِمَا شُرِعَ فِيهَا مِنْ هِدَايَةِ الدِّينِ ، وَمُجَاهَدَةِ النَّفْسِ عَلَى امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي ، فَكُلُّ إِنْسَانٍ لَهُ هَفْوَةٌ قَبْلَ أَنْ يَسْتَحْصِفَ الْعَقْلُ وَيَفْقَهَ أَسْرَارَ النَّقْلِ ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ هُوَ كَبِيرُ النَّفْسِ ، عَالِي الِاسْتِعْدَادِ إِذَا وَقَعَ فِي الْخَطِيئَةِ مَرَّةً كَانَ لَهُ مِنْهَا أَكْبَرُ عِبْرَةٍ ، وَهُوَ لَا يَقَعُ فِيهَا إِلَّا وَهُوَ غَافِلٌ عَنْ عَوَاقِبِهَا وَمُصَوِّرًا إِيَّاهَا بِصُورَةٍ أَحْسَنَ مِنْ صُورَتِهَا ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعْرِفُ مِقْدَارَ الشَّيْءِ قُبَيْلَ الدُّخُولِ فِيهِ ، فَإِذَا أَلَمَّ الْعَاقِلُ السَّلِيمُ الْفِطْرَةِ بِالذَّنْبِ ، وَذَاقَ لَذَّتَهُ عَرَفَ حَقِيقَتَهُ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَعُودُ إِلَيْهِ عِلْمُهُ الَّذِي حَجَبَتْهُ عَنْهُ الشَّهْوَةُ ، وَيَقْوَى فِي نَفْسِهِ مَا كَانَ ضَعُفَ مِنْ نُورِ الْبَصِيرَةِ ، فَيُوَازِنُ بَيْنَ هَذِهِ اللَّذَّةِ ، وَبَيْنَ قُبْحِ الْمَعْصِيَةِ ، وَمَا لَهَا مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ ، فَيَظْهَرُ لَهُ مِنْ مَهَانَةِ نَفْسِهِ ، وَسُوءِ اخْتِيَارِهِ مَا عَسَى أَنْ يَصِيرَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ إِذَا عَادَ إِلَى ذَلِكَ ، وَاعْتَادَهُ وَعُرِفَ بِهِ فَيَنْدَمُ ، وَيُقْلِعُ عَنْ هَذَا الذَّنْبِ وَعَنْ غَيْرِهِ ، وَيَحْمِلُ نَفْسَهُ عَلَى الْفَضِيلَةِ وَيَصْرِفُهَا عَنْ كُلِّ رَذِيلَةٍ .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ تَكُونُ دَاعِيَةُ الشَّهْوَةِ أَقْوَى فِي نُفُوسِهِمْ ، وَأَرْسَخُ ، فَكُلَّمَا أَطَاعُوهَا فِي مَعْصِيَةٍ قَامَتِ الْخَوَاطِرُ الْإِلَهِيَّةُ تُحَارِبُهَا بِلَوْمِ صَاحِبِهَا ، وَتَوْبِيخِهِ حَتَّى تَنْتَصِرَ عَلَيْهَا ، وَتَقْهَرَهَا قَهْرًا لَا تَقُومُ لَهَا بَعْدَهُ قَائِمَةٌ ، وَهَؤُلَاءِ يُعَدُّونَ مِنَ التَّوَّابِينَ أَيْضًا ، وَمِنْهُمْ فِرْقَةٌ تَقْوَى بِالْمُجَاهَدَةِ عَلَى اجْتِنَابِ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ إِلَّا اللَّمَمَ فَتَكُونُ الْحَرْبُ فِي نُفُوسِهِمْ سِجَالًا بَيْنَ مَا يُلِمُّونَ بِهِ مِنَ الضَّمَائِرِ ، وَبَيْنَ الْخَوَاطِرِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي هِيَ جُنْدُ الْإِيمَانِ .
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَقَعُ فِي ذَلِكَ الذَّنْبِ فَيَتُوبُ وَيَسْتَغْفِرُ ، ثُمَّ يَعْرِضُ لَهُ مَرَّةً أُخْرَى فَيَعُودُ إِلَيْهِ ، يَلُومُ نَفْسَهُ ، وَيَنْدَمُ ، وَيَسْتَغْفِرُ ، وَهَلُمَّ جَرَّا ، فَهَؤُلَاءِ فِي أَدْنَى طَبَقَاتِ التَّوَّابِينَ . وَالنَّفْسُ الْبَاقِيَةُ أَرْخَصُ عِنْدَهُمْ مِنَ النَّفْسِ الْفَانِيَةِ ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مَحَلٌّ لِلرَّجَاءِ ; لِأَنَّ لَهُمْ زَاجِرًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يُذَكِّرُهُمْ دَائِمًا بِالرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - عَقِبَ كُلِّ خَطِيئَةٍ ، فَيُوشِكُ أَنْ يَقْوَى هَذَا الزَّاجِرُ الْمُذَكِّرُ عَلَى الشَّهَوَاتِ الْمُزَيِّنَةِ لِلْخَطِيئَةِ ، فَإِنْ كَانَ تَكْرَارُ الْإِثْمِ يَزِيدُ الشَّهْوَةَ ضَرَاوَةً ، وَالنَّفْسَ جُرْأَةً فَتَكْرَارُ تَذْكِيرِ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ يُحْدِثُ فِيهَا أَلَمًا يُقَاوِمُ تِلْكَ الضَّرَاوَةَ بِتَقْرِيعِ النَّفْسِ وَتَحْقِيرِهَا وَتَصْوِيرِ سُوءِ الْعَاقِبَةِ لَهَا ، فَتَكُونُ الْحَرْبُ سِجَالًا ، وَأَثَرُ الْآلَامِ فِي النَّفْسِ أَقْوَى مِنْ أَثَرِ اللَّذَّاتِ فَإِمَّا أَنْ تَنْتَصِرَ الْخَوَاطِرُ وَالزَّوَاجِرُ الْإِلَهِيَّةِ بِذَلِكَ فَيَلْحَقُ صَاحِبُ هَذِهِ النَّفْسِ بِبَعْضِ تِلْكَ الطَّبَقَاتِ الَّتِي صَحَّتْ تَوْبَتُهَا ، وَإِمَّا أَنْ تَنْكَسِرَ أَمَامَ جُنْدِ الشَّهْوَةِ حَتَّى تُحِيطَ بِصَاحِبِهَا الْخَطِيئَةُ فَيَكُونَ مِنَ الْمُصِرِّينَ الْهَالِكِينَ .
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=17فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ ، أَيْ أُولَئِكَ الْمَوْصُفُونَ بِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ، فَإِذَا تَرَاخَتْ تَوْبَتُهُمْ لَا يَطُولُ عَلَيْهَا الزَّمَنُ وَلَا يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ - يَتُوبُ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ ذَيْنِكَ الْأَمْرَيْنِ وَهُمَا
[ ص: 366 ] كَوْنُ فِعْلِ السُّوءِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا عَنْ جَهَالَةٍ ; إِذْ مِثْلُهُمْ فِي إِيمَانِهِمْ ، وَتَقْوَاهُمْ لَا يَعْتَمِدُ الذَّنْبَ مَعَ الرَّوِيَّةِ ، وَكَوْنُ التَّوْبَةِ قَرِيبَةً مِنْ زَمَنِ الذَّنْبِ لَمْ تَدَعْ لَهُ مَجَالًا يَرْسَخُ بِهِ فِي النَّفْسِ ، وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ مُفَرَّعًا عَنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ الْمُقَرَّرِ فِي صَدْرِ الْآيَةِ ، وَهُوَ كَوْنُ قَبُولِ تَوْبَةِ هَؤُلَاءِ مِمَّا أَوْجَبَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَى نَفْسِهِ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ ، وَعِلْمِهِ ، وَحِكْمَتِهِ ، أَيْ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ قَطْعًا ; لِأَنَّ قَبُولَ تَوْبَتِهِمْ مُقَرَّرٌ حَتْمًا ، وَمَوْعُودٌ بِهِ وَعْدًا مَقْضِيًّا .
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : أَشَارَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ حَصْرِ التَّوْبَةِ الْمَقْبُولَةِ لَهُمْ لِتَأْكِيدِ ذَلِكَ الْحَصْرِ ، وَلِاسْتِحْضَارِهِمْ فِي الذِّهْنِ عِنْدَ الْحُكْمِ حَتَّى لَا يَخْطُرَ فِي بَالِ الْقَارِئِ وَالسَّامِعِ إِشْرَاكُ غَيْرِهِمْ مَعَهُمْ فِيهِ ، وَضَمَّنَ التَّوْبَةَ مَعْنَى الْعَطْفِ ، أَيْ يَعْطِفُ عَلَيْهِمْ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ وَيَعُودُ بِرَحْمَتِهِ عَلَيْهِمْ .
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=17nindex.php?page=treesubj&link=28975_28781وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا فَمِنْ عِلْمِهِ بِشُئُونِ عِبَادِهِ ، وَمَصَالِحِهِمْ ، وَحِكْمَتِهِ فِيمَا شَرَعَهُ لَهُمْ أَنَّهُ جَعَلَ التَّوْبَةَ بِشَرْطَيْهَا مَقْبُولَةً حَتْمًا ; لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لِضَعْفِهِمْ لَا يَسْلَمُونَ مِنْ عَمَلِ السُّوءِ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَاصِي تَوْبَةٌ لَفَسَدَ النَّاسُ ، وَهَلَكُوا ; لِأَنَّ مَنْ يَعْمَلُ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ مِنْ ثَوْرَةِ شَهْوَةٍ ، أَوْ سَوْرَةِ غَضَبٍ يَسْتَرْسِلُ حِينَئِذٍ فِي الْمَعَاصِي ، وَالسَّيِّئَاتِ ، وَيَتَعَمَّدُ اتِّبَاعَ الْهَوَى ، وَخُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ هَالِكٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا فَائِدَةَ لَهُ مِنْ مُجَاهَدَةِ نَفْسِهِ وَتَزْكِيَتِهَا ، أَمَا وَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ - تَعَالَى - بِحِكْمَتِهِ قَبُولَ التَّوْبَةِ ، فَقَدْ فَتَحَ لَهُمْ بَابَ الْفَضِيلَةِ ، وَهَدَاهُمْ إِلَى مَحْوِ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ ، وَلَوْ كَانَ كُلُّ ذَنْبٍ يُغْفَرُ ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يُعْفَى عَنْهَا لَمَا آثَرَ النَّاسُ الْخَيْرَ عَلَى الشَّرِّ إِلَّا حَيْثُ تَكُونُ شَهَوَاتُهُمْ وَمَهَبُّ أَهْوَائِهِمْ ، ثُمَّ إِنَّهُ - تَعَالَى - يَعْلَمُ التَّوْبَةَ النَّصُوحَ ، وَالتَّوْبَةَ الْخَادِعَةَ الْكَذُوبَ ; لِأَنَّهُ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ ، وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ، وَمِنْ حِكْمَتِهِ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ إِلَّا التَّوْبَةَ النَّصُوحَ دُونَ حَرَكَةِ اللِّسَانِ بِالِاسْتِغْفَارِ ، وَالْإِتْيَانِ بِبَعْضِ الْمُكَفِّرَاتِ مِنَ الصَّدَقَاتِ ، أَوِ الْأَذْكَارِ ، مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الذُّنُوبِ وَالْأَوْزَارِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=29493_21482_30525فَالْمُقِيمُ عَلَى الذَّنْبِ لَا تَطْهُرُ نَفْسُهُ مِنْ دَنَسِهِ بِعَمَلِ طَاعَةٍ أُخْرَى ، وَإِنْ أَحْسَنَ فِيهَا ، وَأَخْلَصَ ، فَكَيْفَ مَنْ يَكُونُ عَمَلُهُ لَهَا صُورِيًّا تَقْلِيدِيًّا لَا يَمَسُّ سَوَادَ قَلْبِهِ قَطُّ ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى عِنَايَتِهِ بِأَمْرِ الدِّينِ ، وَلَا خَشْيَتِهِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، كَأَلْفَاظِ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّسْبِيحِ ! وَلِذَلِكَ جَمَعَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بَيْنَ التَّوْبَةِ ، وَإِصْلَاحِ الْعَمَلِ ، وَذَكَرْنَا بَعْضَ الْآيَاتِ الَّتِي فِي مَعْنَاهَا . وَإِنْ أَرَدْتَ الزِّيَادَةَ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=16فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا - إِلَى قَوْلِهِ -
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=17وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ [ 3 : 16 ، 17 ] وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=135وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [ 3 : 135 ] وَقَدْ أَشَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا إِلَى نُكْتَةِ ذِكْرِ صِفَةَ الْعِلْمِ ، وَصِفَةِ الْحِكْمَةِ هُنَا بِقَرِيبٍ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ ، وَذِكْرِ غُرُورِ الْجَاهِلِينَ مِنَ الْخَلَفِ الطَّالِحِ بِالْأَذْكَارِ الْقَوْلِيَّةِ ، وَاعْتِمَادِهِمْ عَلَيْهَا ، وَظَنِّهِمْ أَنَّهَا تُنْجِيهِمْ فِي
[ ص: 367 ] الْآخِرَةِ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى الذُّنُوبِ ، وَإِنْ أَصَرُّوا عَلَيْهَا ، وَقَالَ : إِنَّ مِثْلَ هَذَا كَانَ مَعْهُودًا فِي الْأَدْيَانِ السَّابِقَةِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأُمَمَ اسْتَثْقَلَتِ التَّكَالِيفَ لِجَهْلِهَا بِفَائِدَتِهَا ، فَفَسَقَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا ، وَاتَّبَعَتْ أَهْوَاءَهَا ، وَجَعَلَتْ حَظَّهَا مِنَ الدِّينِ بَعْضَ الْأَذْكَارِ ، وَالْأَوْرَادِ السَّهْلَةِ الَّتِي لَا تَمْنَعُهَا مِنْ شَهَوَاتِهَا وَأَهْوَائِهَا شَيْئًا ، فَصَارَ الدِّينُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ عِبَارَةً عَنْ حَرَكَاتٍ لِسَانِيَّةٍ ، وَبَدَنِيَّةٍ لَا تُهَذِّبُ خُلُقًا ، وَلَا تُصْلِحُ عَمَلًا ، وَقَدِ اتَّبَعَ الْكَثِيرُونَ مِنَّا سَنَنَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=24أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [ 47 : 24 ]