الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 322 ] حلف لا يصوم فنوى وصام ساعة حنث ، وإن قال صوما لم يحنث إلا بتمام اليوم . حلف لا يصلي فقام وقرأ وركع لم يحنث ما لم يسجد; ولو قال : صلاة لم يحنث إلا بتمام ركعتين ومن قال لأمته : إن ولدت ولدا فأنت حرة فولدت ولدا ميتا عتقت ، وكذلك الطلاق ، ولو قال : فهو حر فولدت ميتا ثم حيا عتق الحي ( سم ) ; ومن قال : من بشرني بقدوم فلان فهو حر فبشره جماعة متفرقون عتق الأول ، وإن بشروه جميعا عتقوا; ولو قال : من أخبرني عتقوا في الوجهين قال : إن تسريت جارية فهي حرة فتسرى جارية كانت في ملكه عتقت ، ولو اشتراها وتسرى بها لم تعتق . حلف لا يتزوج فزوجه غيره بغير أمره ، فإن أجاز بالقول حنث ، وإن أجاز بالفعل لا يحنث ، ولو أمر غيره أن يزوجه حنث ، وكذلك الطلاق والعتاق . حلف لا يزوج عبده أو أمته يحنث بالتوكيل والإجازة وكذلك ابنه وابنته الصغيرين ، وفي الكبيرين لا يحنث إلا بالمباشرة . حلف لا يضرب عبده فوكل به حنث ، وإن نوى أن لا يباشره بنفسه صدق قضاء . ولو حلف لا يضرب ولده فأمر به لم يحنث; وذبح الشاة كضرب العبد . حلف لا يبيع فوكل به لم يحنث ، وكذا سائر المعاوضات المالية .

حلف لا يبيع فباع ولم يقبل المشتري لا يحنث ، وكذلك الإجارة والصرف والسلم والرهن والنكاح والخلع ، ولو وهب أو تصدق ، أو أعار فلم يقبل حنث . حلف ليقضين دينه إلى قريب فما دون الشهر ، وبعيد أكثر من الشهر ، وإن قال : ليقضينه اليوم ففعل ، وبعضها زيوف ، أو نبهرجة ، أو مستحقة لم يحنث ، ولو كان رصاصا أو ستوقة حنث . حلف لا يقبض دينه متفرقا فقبض بعضه لا يحنث حتى يقبض باقيه ، وإن قبضه في وزنتين متعاقبا لم يحنث . حلف لا يفعل كذا تركه أبدا ، وإن قال : لأفعلنه بر بواحدة . استحلف الوالي رجلا ليعلمنه بكل مفسد فهو على حال ولايته خاصة حلف ليهبنه ففعل ولم يقبل بر ، وكذلك القرض والعارية والصدقة .

التالي السابق


فصل

[ الحنث في اليمين ]

( حلف لا يصوم فنوى وصام ساعة حنث ) لأن الصوم هو الإمساك عن المفطرات مع النية [ ص: 323 ] وقد وجد ( وإن قال صوما لم يحنث إلا بتمام اليوم ) لأنه يراد به الصوم التام ، وذلك صوم اليوم لأن ما دونه ناقص .

قال : ( حلف لا يصلي فقام وقرأ وركع لم يحنث ما لم يسجد ) لأن الصلاة عبارة عن الأركان ، فما لم يأت بها لا تسمى صلاة ، بخلاف الصوم لأنه عبارة عن الإمساك وأنه موجود في أول جزء من اليوم وفي الجزء الثاني يتكرر ( ولو قال صلاة لا يحنث إلا بتمام ركعتين ) لأنه يراد به الصلاة المعتبرة شرعا وأقل ذلك ركعتان .

قال : ( ومن قال لأمته : إن ولدت ولدا فأنت حرة ، فولدت ولدا ميتا عتقت ، وكذلك الطلاق ) لوجود الشرط وهو ولادة الولد ، ألا يرى أنه يقال : ولدت ولدا حيا ، وولدت ولدا ميتا ( ولو قال : فهو حر فولدت ميتا ثم حيا عتق الحي ) عند أبي حنيفة رحمه الله . وقالا : لا يعتق لأن اليمين انحلت بوجود الشرط وهو ولادة الولد الميت لا إلى جزء لأن الميت ليس بمحل للحرية . وله أن الشرط ولادة الحي لأنه وصفه بالحرية ، ومن ضرورتها الحياة فصار كقوله إذا ولدت ولدا حيا فهو حر ، ولو قال كذلك عتق الحي فكذا هنا ، بخلاف حرية الأم والطلاق لأنه لم يقيده بالحياة فافترقا .

قال : ( ومن قال : من بشرني بقدوم فلان فهو حر فبشره جماعة متفرقون عتق الأول ، وإن بشروه جميعا عتقوا ، ولو قال : من أخبرني عتقوا في الوجهين ) لأن البشارة عرفا اسم لخبر سار صدق ليس عند المبشر علمه لأنه مأخوذ من تغير بشرة الوجه من الفرح عادة ، والسرور إنما يحصل بالصدق لا بالكذب وبخبر ليس عنده علمه ، والخبر اسم لمطلق الخبر سواء كان عنده علمه أو لم يكن ويقع على الصدق والكذب ، ففي المسألة الأولى البشارة حصلت بالأول لما بينا فعتق ولم تحصل بالباقي لأنه قد علم به فلم تكن بشارة ، وفي الثانية حصلت بإخبار الكل فيعتقون; أما الخبر فإنه وجد من الكل سواء كانوا متفرقين أو مجتمعين فيعتقون في الحالين ، والإعلام كالبشارة يعتق الأول لا غير لأنه ما يحصل به العلم وإنما يحصل بالأول ، والبشارة والخبر يكون بالكتابة والمراسلة كما يكون بالمشافهة ، والمحادثة بالمشافهة لا غير ، ولهذا يقال : أخبرنا الله تعالى ولا يقال : حدثنا .

[ ص: 324 ] فإذا قال : أي غلام بشرني بقدوم فلان فهو حر فكتب إليه غلامه بذلك عتق; ولو أن عبدا له أرسل عبدا له آخر بالبشارة فجاء الرسول وقال للمولى : إن فلانا يقول لك : قد قدم فلان عتق المرسل دون الرسول وهو بمنزلة الكتاب; ولو قال الرسول : إن فلانا قدم ولم يقل له أرسلني فلان عتق الرسول خاصة .

( قال : إن تسريت جارية فهي حرة فتسرى جارية كانت في ملكه عتقت ، ولو اشتراها وتسرى بها لم تعتق ) والفرق أن في المسألة الأولى تناولتها اليمين لكونها في ملكه ، وفي المسألة الثانية لم تكن في ملكه فلم يتناولها اليمين . وقال زفر رحمه الله : تعتق في الوجهين لأن ذكر التسري ذكر للملك ، لأن التسري لا يصح إلا في الملك . قلنا الملك يصير مذكورا ضرورة صحة التسري فيتقدر بقدره ولا يظهر في حق الحرية وهو الجزاء ، لأن الثابت بالضرورة يتقدر بقدرها .

قال : ( حلف لا يتزوج فزوجه غيره بغير أمره ، فإن أجاز بالقول حنث ) لأن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء على ما عرف في تصرفات الفضولي .

( وإن أجاز بالفعل ) كإعطاء المهر ونحوه المختار أنه ( لا يحنث ) لأن العقود تختص بالأقوال فلا يكون فعله عقدا وإنما يكون رضا ، وشرط الحنث العقد لا الرضا . وروي عن محمد أنه لا يحنث في الوجهين ، وأفتى به بعض المشايخ ، لأن الإجازة ليست بإنشاء للعقد حقيقة ، وإنما هو تنفيذ لحكم العقد بالرضا به .

( ولو أمر غيره أن يزوجه حنث ) لأن الوكيل في النكاح سفير ومعبر على ما عرف في موضعه . ولو قال : عنيت أن لا أتكلم به صدق ديانة لأنه يحتمله لا قضاء لأنه خلاف الظاهر .

( وكذلك ) الحكم في ( الطلاق والعتاق ) وكل عقد لا ترجع حقوقه إلى الوكيل كالكتابة والخلع والهبة والصدقة والوديعة والعارية والقرض والاستقراض ، وكذلك كل فعل ليس له حقوق كالضرب والقتل والذبح والكسوة والقضاء والاقتضاء والخصومة والشركة فإنه يحنث بفعله وبالأمر . وفي الصلح روايتان بمنزلة البيع والنكاح .

[ ص: 325 ] ( حلف لا يزوج عبده أو أمته يحنث بالتوكيل والإجازة ) لأن ذلك مضاف إليه متوقف على إرادته لملكه وولايته ( وكذلك ابنه وابنته الصغيرين ) لولايته عليهما ( وفي الكبيرين لا يحنث إلا بالمباشرة ) لعدم ولايته عليهما فهو كالأجنبي عنهما فيتعلق بحقيقة الفعل .

قال : ( حلف لا يضرب عبده فوكل به حنث ) لأن منفعة ذلك ترجع إلى المالك فيجعل مباشرا لأنه لا حقوق له ترجع إلى الوكيل ( وإن نوى أن لا يباشره بنفسه صدق قضاء ) لأنه فعل حسي ، فإذا نوى الفعل بنفسه فقد نوى الحقيقة فيصدق قضاء وديانة ، بخلاف ما تقدم من النكاح وأخواته لأنه تكلم بكلام يفضي إلى النكاح والطلاق والأمر بذلك مثل التكلم به ، فإذا نوى التكلم به فقد نوى الخاص من العام فيصدق ديانة لا قضاء .

قال : ( ولو حلف لا يضرب ولده فأمر به لم يحنث ) لأن منفعته عائدة إلى الولد وهو التثقيف والتأديب فلا ينسب إلى الأمر ، بخلاف ضرب العبد على ما تقدم .

( وذبح الشاة كضرب العبد ) حلف لا يضرب حرا فأمر غيره فضربه لا يحنث لأنه لا يملك ضرب الحر إلا أن يكون سلطانا أو قاضيا فيحنث لأنه لا يملك ضربا حدا وتعزيرا فيصح الأمر به .

قال : ( حلف لا يبيع فوكل به لم يحنث ، وكذا سائر المعاوضات المالية ) لأن العقد يوجد من العاقد حتى ترجع الحقوق إليه على ما مر في البيوع فلم يوجد الشرط وهو العقد من الحالف إلا أن ينوي ذلك لأن فيه تشديدا عليه ، أو يكون الحالف ممن لا يباشر العقود كالسلطان والمخدرة ، لأنه إنما يمنع نفسه عما يعتاد ، ولو كان الحالف يباشر مرة ويوكل أخرى تعتبر الغلبة .

قال : ( حلف لا يبيع فباع ولم يقبل المشتري لا يحنث ، وكذلك الإجارة والصرف والسلم [ ص: 326 ] والرهن والنكاح والخلع ، ولو وهب أو تصدق أو أعار فلم يقبل حنث ) لأن المعاوضة تمليك من الجانبين فيكون القبول ركنا لتحقيق المعاوضة ، وفي غير المعاوضة تمليك من جانب المملك وحده . وقال زفر : لا يحنث في الهبة والصدقة أيضا لأن تمامها بالقبول فصار كالبيع . قلنا : الهبة تمليك فتتم بالمملك والقبول شرط لثبوت الملك دون وجود الهبة ، فصار كالوصية والإقرار بخلاف البيع لأنه تمليك وتملك على ما بينا . وعن أبي حنيفة رحمه الله : في القرض روايتان ، ويحنث بالبيع الفاسد والهبة الفاسدة . وعن أبي يوسف أنه لا يحنث . وقال زفر : لا يحنث فيه إلا بالقبض ، لأن المقصود الملك وهو بالقبض . قلنا : هو بيع حقيقة لوجود الإيجاب والقبول وعلى هذا البيع بشرط الخيار .

قال : ( حلف ليقضين دينه إلى قريب فما دون الشهر ، وبعيد أكثر من الشهر ) لأن ما دون الشهر يعد قريبا ، والشهر وما زاد يعد بعيدا والعبرة للمعتاد .

( وإن قال : ليقضينه اليوم ففعل وبعضها زيوف ، أو نبهرجة ، أو مستحقة لم يحنث ) لأنها دراهم إلا أنها معيبة والعيب لا يعدم الجنس ، ألا يرى أنه لو تجوز بها في الصرف والسلم جاز ، والمستحقة دراهم وقبضها صحيح ، وبردها لا ينتقض القبض الأول المستحق باليمين .

( ولو كان رصاصا أو ستوقة حنث ) لأنهما ليسا بدراهم حتى لو تجوز بهما لا يجوز ، وهذا إذا كان الأكثر ستوقا ، أما إذا كان الأكثر فضة لا يحنث . حلف ليقضين من فلان حقه فأخذه من وكيله أو كفيل عنه بأمره أو محتال عليه بأمر المطلوب بر ، وإن كانت الكفالة والحوالة بغير أمر المطلوب حنث ، لأن القبض ليس من المحلوف عليه ، ألا يرى أن الدافع لا يرجع عليه ، وفي الفصل الأول الأخذ من وكيله أخذ منه ، لما بينا أن حقوق القضاء لا ترجع إلى المأمور وكذا كفيله بأمره كالوكيل ، ولهذا يرجع بما أدى عليه ، وكذا لو حلف ليعطين فلانا حقه فأمر غيره بالأداء أو أحاله فقبض بر ، ولو باعه شيئا وقبضه بر أيضا ، لأن بالبيع صار الثمن دينا في ذمته فيتقاصان وهو طريق قضاء الديون ; ولو أبرأه أو وهبه حنث لأنه إسقاط محض من جهة الطالب وليس بقضاء من الحالف ، بخلاف البيع على ما بينا . حلف لا يفارق غريمه حتى يستوفي حقه فهرب من الغريم لم يحنث .

[ ص: 327 ] قال : ( حلف لا يقبض دينه متفرقا فقبض بعضه لا يحنث حتى يقبض باقيه ) لأن الشرط قبض جميع دينه متفرقا ولم يوجد شرط الحنث ، ألا يرى أنه لو أبرأه من الباقي أو وهبه لا يكون قابضا للكل ( وإن قبضه في وزنتين متعاقبا لم يحنث ) لأنه قد يتعذر وزن الكل دفعة واحدة فيكون هذا القدر مستثنى من اليمين فلا يحنث به ، وإن اشتغل بين وزنين بعمل آخر حنث لأنه تبدل المجلس فاختلف الدفع .

قال : ( حلف لا يفعل كذا تركه أبدا لأنه نفى مطلقا فيعم .

( وإن قال : لأفعلنه بر بواحدة ) لأنه في معرض الإثبات فيبر بأي فعل فعله ، وإنما يحنث بموته أو بهلاك محل الفعل إذا أيس من الفعل .

قال : ( استحلف الوالي رجلا ليعلمنه بكل مفسد فهو على حال ولايته خاصة ) لأن المقصود من ذلك رفع الفساد ودفع الشر بالمنع والزجر ، وذلك في حالة سلطنته وولايته فيتقيد بها ، وزوالها بالموت والعزل ( حلف ليهبنه ففعل ولم يقبل بر ، وكذلك القرض والعارية والصدقة ) وقد مر الوجه فيه .




الخدمات العلمية