الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 20 ] ( وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين ) .

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال أهل العقاب في الآية المتقدمة ، شرح أحوال أهل الثواب في هذه الآية ، فقال : ( وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا ) فإن قيل : السوق في أهل النار للعذاب معقول ; لأنهم لما أمروا بالذهاب إلى موضع العذاب والشقاوة لا بد وأن يساقوا إليه ، وأما أهل الثواب فإذا أمروا بالذهاب إلى موضع الكرامة والراحة والسعادة ، فأي حاجة فيه إلى السوق؟

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن المحبة والصداقة باقية بين المتقين يوم القيامة كما قال تعالى : ( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ) [الزخرف : 67] فإذا قيل لواحد منهم : اذهب إلى الجنة فيقول : لا أدخلها حتى يدخلها أحبائي وأصدقائي ، فيتأخرون لهذا السبب ، فحينئذ يحتاجون إلى أن يساقوا إلى الجنة .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن الذين اتقوا ربهم قد عبدوا الله تعالى لا للجنة ولا للنار ، فتصير شدة استغراقهم في مشاهدة مواقف الجلال والجمال مانعة لهم عن الرغبة في الجنة ، فلا جرم يحتاجون إلى أن يساقوا إلى الجنة .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أكثر أهل الجنة البله وعليون للأبرار " فلهذا السبب يساقون إلى الجنة . والرابع : أن أهل الجنة وأهل النار يساقون إلا أن المراد بسوق أهل النار طردهم إليها بالهوان والعنف كما يفعل بالأسير إذا سيق إلى الحبس والقيد ، والمراد بسوق أهل الجنة سوق مراكبهم ; لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين ، والمراد بذلك السوق إسراعهم إلى دار الكرامة والرضوان كما يفعل بمن يشرف ويكرم من الوافدين على الملوك ، فشتان ما بين السوقين .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ) الآية ، واعلم أن جملة هذا الكلام شرط واحد مركب من قيود ؛ القيد الأول : هو مجيئهم إلى الجنة . والقيد الثاني : قوله تعالى : ( وفتحت أبوابها ) فإن قيل : قال أهل النار : فتحت أبوابها ، بغير الواو ، وقال هاهنا بالواو فما الفرق؟ قلنا : الفرق أن أبواب جهنم لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها ، فأما أبواب الجنة ففتحها يكون متقدما على وصولهم إليها بدليل قوله : ( جنات عدن مفتحة لهم الأبواب ) [ص : 50] فلذلك جيء بالواو ، كأنه قيل : حتى إذا جاءوها وقد فتحت أبوابها . القيد الثالث : قوله : ( وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ) فبين تعالى أن خزنة [ ص: 21 ] الجنة يذكرون لأهل الثواب هذه الكلمات الثلاث ، فأولها : قولهم ( سلام عليكم ) وهذا يدل على أنهم يبشرونهم بالسلامة من كل الآفات . وثانيها : قولهم ( طبتم ) والمعنى طبتم من دنس المعاصي وطهرتم من خبث الخطايا . وثالثها : قولهم ( فادخلوها خالدين ) والفاء في قوله : ( فادخلوها ) يدل على كون ذلك الدخول معللا بالطيب والطهارة ، قالت المعتزلة : هذا يدل على أن أحدا لا يدخلها إلا إذا كان طاهرا عن كل المعاصي ، قلنا : هذا ضعيف لأنه تعالى يبدل سيئاتهم حسنات ، وحينئذ يصيرون طيبين طاهرين بفضل الله تعالى ، فإن قيل : فهذا الذي تقدم ذكره هو الشرط فأين الجواب؟ قلنا : فيه وجهان ; الأول : أن الجواب محذوف والمقصود من الحذف أن يدل على أنه بلغ في الكمال إلى حيث لا يمكن ذكره .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن الجواب هو قوله تعالى : ( وقال لهم خزنتها سلام عليكم ) والواو محذوف ، والصحيح هو الأول ، ثم أخبر الله تعالى بأن الملائكة إذا خاطبوا المتقين بهذه الكلمات ، قال المتقون عند ذلك : ( الحمد لله الذي صدقنا وعده ) في قوله : ( ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ) [فصلت : 30] ( وأورثنا الأرض ) [الزمر : 74] والمراد بالأرض أرض الجنة ، وإنما عبر عنه بالإرث لوجوه ; الأول : أن الجنة كانت في أول الأمر لآدم عليه السلام ; لأنه تعالى قال : ( وكلا منها رغدا حيث شئتما ) [البقرة : 35] فلما عادت الجنة إلى أولاد آدم كان ذلك سببا لتسميتها بالإرث . الثاني : أن هذا اللفظ مأخوذ من قول القائل : هذا العمل أورث كذا وهذا العمل أورث كذا ، فلما كانت طاعتهم قد أفادتهم الجنة ، لا جرم قالوا : ( وأورثنا الأرض ) والمعنى أن الله تعالى أورثنا الجنة بأن وفقنا للإتيان بأعمال أورثت الجنة .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن الوارث يتصرف فيما يرثه كما يشاء من غير منازع ولا مدافع ، فكذلك المؤمنون المتقون يتصرفون في الجنة كيف شاءوا وأرادوا ، والمشابهة علة حسن المجاز ، فإن قيل ما معنى قوله : ( حيث نشاء ) وهل يتبوأ أحدهم مكان غيره؟ قلنا : يكون لكل أحد جنة لا يحتاج معها إلى جنة غيره ، قال حكماء الإسلام : الجنات نوعان : الجنات الجسمانية والجنات الروحانية ; فالجنات الجسمانية لا تحتمل المشاركة فيها ، أما الروحانيات فحصولها لواحد لا يمنع من حصولها للآخرين ، ولما بين الله تعالى صفة أهل الجنة قال : ( فنعم أجر العاملين ) قال مقاتل : ليس هذا من كلام أهل الجنة ، بل من كلام الله تعالى ; لأنه لما حكى ما جرى بين الملائكة وبين المتقين من صفة ثواب أهل الجنة قال بعده : ( فنعم أجر العاملين ) ولما قال تعالى : ( وترى الملائكة حافين من حول العرش ) ذكر عقيبه ثواب الملائكة فقال : كما أن دار ثواب المتقين المؤمنين هي الجنة ، فكذلك دار ثواب الملائكة جوانب العرش وأطرافه ، فلهذا قال : ( وترى الملائكة حافين من حول العرش ) أي محلقين بالعرش . قال الليث : يقال : حف القوم بسيدهم يحفون حفا : إذا طافوا به .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا ، فنقول : بين تعالى أن دار ثوابهم هو جوانب العرش وأطرافه ثم قال : ( يسبحون بحمد ربهم ) وهذا مشعر بأن ثوابهم هو عين ذلك التحميد والتسبيح ، وحينئذ رجع حاصل الكلام إلى أن أعظم درجات الثواب استغراق قلوب العباد في درجات التنزيه ومنازل التقديس .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية