الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ثم ختم جل وعلا بمكنون ضمائرهم ومخزون ما أعد لهم عنده تعالى بقوله سبحانه: بل ظننتم إلى قوله تعالى: بورا وفي الانتصاف أن في قوله تعالى: فمن يملك إلخ لفا ونشرا والأصل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو من يحرمكم النفع إن أراد بكم نفعا لأن من يملك يستعمل في الضر كقوله تعالى: فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في بعض الحديث: (إني لا أملك لكم شيئا). يخاطب عشيرته وأمثاله كثير، وسر اختصاصه بدفع المضرة أن الملك مضاف في هذه المواضع باللام، ودفع المضرة نفع يضاف للمدفوع عنه وليس كذلك حرمان المنفعة فإنه ضرر عائد عليه لا له فإذا ظهر ذلك فإنما انتظمت الآية على هذا الوجه كذلك لأن القسمين يشتركان في أن كل واحد منهما نفي لدفع المقدور من خير وشر فلما تقاربا أدرجا في عبارة واحدة، وخص عبارة دفع الضر لأنه هو المتوقع لهؤلاء إذ الآية في سياق التهديد والوعيد الشديد وهي نظير قوله تعالى: قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة فإن العصمة إنما تكون من السوء لا من الرحمة، فهاتان الآيتان توأمتان في التقرير المذكور انتهى، والوجه ما ذكرناه أولا في الآية، وفي تسمية مثل هذا لفا ونشرا نظر، ثم إن الظاهر عموم الضر والنفع، وقال شيخ الإسلام أبو السعود: المراد بالضر ما يضر من هلاك الأهل والمال وضياعهما وبالنفع ما ينفع من حفظ المال والأهل وتعميمهما يرده قوله تعالى بل كان الله بما تعملون خبيرا فإنه إضراب عما قالوه وبيان لكذبه بعد بيان فساده على تقدير صدقه انتهى، وهو كلام أوهى من بيت العنكبوت لأن في التعميم إفادة لما ذكر وزيادة تفيد قوة وبلاغة، والظاهر أن كلا من الإضرابات الثلاثة مقصود، وقال شيخ الإسلام: إن قوله تعالى: بل ظننتم إلخ بدل من ( كان الله ) إلخ مفسر لما فيه من الإبهام. وفي البحر أنه بيان للعلة في تخلفهم أي بل ظننتم أن لن ينقلب أي لن يرجع من ذلك السفر الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أي عشائرهم وذوي قرباهم أبدا بأن يستأصلهم المشركون بالمرة فحسبتم إن كنتم معهم أن يصيبكم ما يصيبهم فلأجل ذلك تخلفتم لا لما ذكرتم من المعاذير الباطلة. والأهلون جمع أهل وجمعه جمع السلامة على خلاف القياس لأنه ليس بعلم ولا صفة من صفات من يعقل ويجمع على إهلات بملاحظة تاء التأنيث في مفرده تقديرا فيجمع كتمرة وتمرات ونحوه أرض وأرضات، وقد جاء على ما في الكشاف أهلة بالتاء ويجوز تحريك عينه أيضا فيقال: إهلات بفتح الهاء، وكذا يجمع على أهال كليال، وأطلق عليه الزمخشري اسم الجمع وقيل: وهو إطلاق منه في الجمع الوارد على خلاف القياس وإلا فاسم الجمع شرطه عند النحاة أن يكون على وزن المفردات سواء كان له مفرد أم لا. وقرأ عبد الله (إلى أهلهم) بغير ياء، والآية ظاهرة في أن ( لن ) ليست للتأبيد ومن زعم إفادتها إياه جعل أبدا للتأكيد وزين أي حسن ذلك أي الظن المفهوم من ظننتم في قلوبكم فلم تسعوا في إزالته فتمكن فيكم فاشتغلتم بشأن أنفسكم غير مبالين بالرسول صلى الله تعالى [ ص: 100 ] عليه وسلم والمؤمنين وقيل: الإشارة إلى المظنون وهو عدم انقلاب الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين إلى أهليهم أبدا أي حسن ذلك في قلوبكم فأحببتموه والمراد من ذلك تقريعهم ببغضهم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين، والمناسب للسياق ما تقدم. وقرئ: ( زين ) بالبناء للفاعل بإسناده إلى الله تعالى أو إلى الشيطان وظننتم ظن السوء وهو ظنهم السابق فتعريفه للعهد الذكرى وأعيد لتشديد التوبيخ والتسجيل عليه بالسوء أو هو عام فيشمل ذلك الظن وسائر ظنونهم الفاسدة التي من جملتها الظن بعدم رسالته عليه الصلاة والسلام، فإن الجازم بصحتها لا يحوم فكره حول ما ذكر من الاستئصال فذكر ذلك للتعميم بعد التخصيص.

                                                                                                                                                                                                                                      وكنتم في علم الله تعالى الأزلي قوما بورا أي هالكين لفساد عقيدتكم وسوء نيتكم مستوجبين سخطه تعالى وعقابه جل شأنه، وقيل: أي فاسدين في أنفسكم وقلوبكم ونياتكم لا خير فيكم، والظاهر على ما في البحر أن بورا في الأصل مصدر كالهلك ولذا وصف به المفرد المذكر في قول ابن الزبعرى:


                                                                                                                                                                                                                                      يا رسول الله المليك إن لساني راتق ما فتقت إذ أنا بور



                                                                                                                                                                                                                                      والمؤنث حكى أبو عبيدة امرأة بور والمثنى والمجموع، وجوز أن يكون جمع بائر كحائل وحول وعائذ وعوذ وبازل وبزل، وعلى المصدرية هو مؤول باسم الفاعل، وجوز أن تكون كان بمعنى صار أي وصرتم بذلك الظن قوما هالكين مستوجبين السخط والعقاب والظاهر إبقاؤها على بابها والمضي باعتبار العلم كما أشرنا إليه، وقيل: أي كنتم قبل الظن فاسدين،

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية