الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي "أضاءت" قولان . أحدهما: أنه من الفعل المتعدي ، قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه



                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر:


                                                                                                                                                                                                                                      أضاءت لنا النار وجها أغر     ملتبسا بالفؤاد التباسا



                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه من الفعل اللازم . قال أبو عبيد: يقال: أضاءت النار ، وأضاءها غيرها . وقال الزجاج: يقال: ضاء القمر ، وأضاء .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي "ما" قولان . أحدهما: أنها زائدة ، تقديره: أضاءت حوله . والثاني: أنها بمعنى الذي . وحول الشيء: ما دار من جوانبه . والهاء: عائدة على المستوقد . فإن قيل: كيف وحد ، فقال: كمثل الذي استوقد ثم جمع فقال: ذهب الله بنورهم ؟ فالجواب: أن ثعلبا حكى عن الفراء أنه قال: إنما ضرب المثل للفعل ، لا لأعيان الرجال ، وهو مثل للنفاق . وإنما قال: ذهب الله بنورهم لأن المعنى ذاهب إلى المنافقين ، فجمع لذلك . قال ثعلب: وقال غير الفراء: معنى الذي: الجمع ، وحد أولا للفظه ، وجمع بعد لمعناه ، كما قال الشاعر:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 40 ]

                                                                                                                                                                                                                                      فإن الذي حانت بفلج دماؤهم     هم القوم كل القوم يا أم خالد



                                                                                                                                                                                                                                      فجعل "الذي" جمعا .

                                                                                                                                                                                                                                      فصل

                                                                                                                                                                                                                                      اختلف العلماء في الذي ضرب الله تعالى له هذا المثل من أحوال المنافقين على قولين . أحدهما: أنه ضرب بكلمة الإسلام التي يلفظون بها ، ونورها صيانة النفوس وحقن الدماء ، فإذا ماتوا سلبهم الله ذلك العز ، كما سلب صاحب النار ضوءه . وهذا المعنى مروي عن ابن عباس . والثاني: أنه ضرب لإقبالهم على المؤمنين وسماعهم ما جاء به الرسول ، فذهاب نورهم: إقبالهم على الكافرين والضلال ، وهذا قول مجاهد .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي المراد بـ "الظلمات" هاهنا أربعة أقوال . أحدها: العذاب ، قاله ابن عباس . والثاني: ظلمة الكفر ، قاله مجاهد . والثالث: ظلمة يلقيها الله عليهم بعد الموت ، قاله قتادة . والرابع: أنها نفاقهم قاله السدي .

                                                                                                                                                                                                                                      فصل

                                                                                                                                                                                                                                      وفي ضرب المثل لهم بالنار ثلاث حكم .

                                                                                                                                                                                                                                      إحداها: أن المستضيء بالنار مستضيء بنور من جهة غيره ، لا من قبل نفسه ، فإذا ذهبت تلك النار بقي في ظلمة ، فكأنهم لما أقروا بألسنتهم من غير اعتقاد قلوبهم ، كان نور إيمانهم كالمستعار .

                                                                                                                                                                                                                                      والثانية: أن ضياء النار يحتاج في دوامه إلى مادة الحطب ، فهو له كغذاء الحيوان ، فكذلك نور الإيمان يحتاج إلى مادة الاعتقاد ليدوم .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 41 ] والثانية أن الظلمة الحادثة بعد الضوء أشد على الإنسان من ظلمة لم يجد معها ضياء ، فشبه حالهم بذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية