الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( أولئك على هدى من ربهم )

اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله جل ثناؤه بقوله : " أولئك على هدى من ربهم " : فقال بعضهم : عنى بذلك أهل الصفتين المتقدمتين ، أعني : المؤمنين بالغيب من العرب ، والمؤمنين بما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإلى من قبله من الرسل . وإياهم جميعا وصف بأنهم على هدى منه ، وأنهم هم المفلحون .

ذكر من قال ذلك من أهل التأويل :

292 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، أما " الذين يؤمنون بالغيب " ، فهم المؤمنون من العرب ، " والذين يؤمنون بما أنزل إليك " ، المؤمنون من أهل الكتاب . ثم جمع الفريقين فقال : " أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون " .

وقال بعضهم : بل عنى بذلك المتقين الذين يؤمنون بالغيب ، وهم الذين يؤمنون [ ص: 248 ] بما أنزل إلى محمد ، وبما أنزل إلى من قبله من الرسل .

وقال آخرون : بل عنى بذلك الذين يؤمنون بما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وبما أنزل إلى من قبله ، وهم مؤمنو أهل الكتاب الذين صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، وكانوا مؤمنين من قبل بسائر الأنبياء والكتب .

وعلى هذا التأويل الآخر يحتمل أن يكون ( والذين يؤمنون بما أنزل إليك ) في محل خفض ، ومحل رفع .

فأما الرفع فيه فإنه يأتيها من وجهين : أحدهما : من قبل العطف على ما في " يؤمنون بالغيب " من ذكر "الذين " ، والثاني : أن يكون خبر مبتدأ ، أو يكون " أولئك على هدى من ربهم " ، مرافعها .

وأما الخفض فعلى العطف على "المتقين " ، وإذا كانت معطوفة على "الذين " اتجه لها وجهان من المعنى : أحدهما : أن تكون هي و "الذين " الأولى ، من صفة المتقين . وذلك على تأويل من رأى أن الآيات الأربع بعد "الم " ، نزلت في صنف واحد من أصناف المؤمنين . والوجه الثاني : أن تكون "الذين " الثانية معطوفة في الإعراب على "المتقين " بمعنى الخفض ، وهم في المعنى صنف غير الصنف الأول . وذلك على مذهب من رأى أن الذين نزلت فيهم الآيتان الأولتان من المؤمنين بعد قوله "الم " ، غير الذين نزلت فيهم الآيتان الآخرتان اللتان تليان الأولتين .

وقد يحتمل أن تكون "الذين " الثانية مرفوعة في هذا الوجه بمعنى الائتناف ، إذ كانت مبتدأ بها بعد تمام آية وانقضاء قصة . وقد يجوز الرفع فيها أيضا بنية الائتناف ، إذ كانت في مبتدأ آية ، وإن كانت من صفة المتقين .

فالرفع إذا يصح فيها من أربعة أوجه ، والخفض من وجهين .

وأولى التأويلات عندي بقوله ( أولئك على هدى من ربهم ) ما ذكرت من قول ابن مسعود وابن عباس ، وأن تكون "أولئك " إشارة إلى الفريقين ، أعني : [ ص: 249 ] المتقين ، والذين يؤمنون بما أنزل إليك ، وتكون "أولئك " مرفوعة بالعائد من ذكرهم في قوله " على هدى من ربهم "; وأن تكون "الذين " الثانية معطوفة على ما قبل من الكلام ، على ما قد بيناه .

وإنما رأينا أن ذلك أولى التأويلات بالآية ، لأن الله جل ثناؤه نعت الفريقين بنعتهم المحمود ، ثم أثنى عليهم . فلم يكن عز وجل ليخص أحد الفريقين بالثناء ، مع تساويهما فيما استحقا به الثناء من الصفات . كما غير جائز في عدله أن يتساويا فيما يستحقان به الجزاء من الأعمال ، فيخص أحدهما بالجزاء دون الآخر ، ويحرم الآخر جزاء عمله . فكذلك سبيل الثناء بالأعمال ، لأن الثناء أحد أقسام الجزاء .

وأما معنى قوله ( أولئك على هدى من ربهم ) فإن معنى ذلك : أنهم على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد ، بتسديد الله إياهم ، وتوفيقه لهم . كما : -

293 - حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، [ ص: 250 ] عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، " أولئك على هدى من ربهم " : أي على نور من ربهم ، واستقامة على ما جاءهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية