الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
المرسل .


120 - مرفوع تابع على المشهور مرسل أو قيده بالكبير      121 - أو سقط راو منه ذو أقوال
والأول الأكثر في استعمال      122 - واحتج مالك كذا النعمان
وتابعوهما به ودانوا      123 - ورده جماهر النقاد
للجهل بالساقط في الإسناد      124 - وصاحب التمهيد عنهم نقله
ومسلم صدر الكتاب أصله      125 - لكن إذا صح لنا مخرجه
بمسند أو مرسل يخرجه      126 - من ليس يروي عن رجال الأول
نقبله قلت الشيخ لم يفصل      127 - والشافعي بالكبار قيدا
ومن روى عن الثقات أبدا [ ص: 169 ]      128 - ومن إذا شارك أهل الحفظ
وافقهم إلا بنقص لفظ      129 - فإن يقل فالمسند المعتمد
فقل دليلان به يعتضد      130 - ورسموا منقطعا عن رجل
وفي الأصول نعته بالمرسل      131 - أما الذي أرسله الصحابي
فحكمه الوصل على الصواب

.

[ معنى المرسل لغة ] : وجمعه " مراسيل " بإثبات الياء وحذفها أيضا ، وأصله كما هو حاصل كلام العلائي : مأخوذ من الإطلاق ، وعدم المنع ; كقوله تعالى : إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين [ مريم : 83 ] ; فكأن المرسل أطلق الإسناد ، ولم يقيده براو معروف ، أو من قولهم : ناقة مرسال ، أي : سريعة السير ; كأن المرسل أسرع فيه عجلا ، فحذف بعض إسناده .

قال كعب :

أمست سعاد بأرض لا يبلغها     إلا العتاق النجيبات المراسيل

.

أو من قولهم : جاء القوم أرسالا ، أي : متفرقين ; لأن بعض الإسناد منقطع من بقيته .

[ معنى المرسل اصطلاحا ] : وأما في الاصطلاح فـ ( مرفوع ) أي : مضاف ( تابع ) من التابعين إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتصريح أو الكناية ( على المشهور ) عند أئمة المحدثين ( مرسل ) كما نقله الحاكم وابن عبد البر عنهم ، واختاره الحاكم وغيره ، ووافقهم جماعة من الفقهاء والأصوليين .

وعبر عنه بعضهم كالقرافي في التنقيح بإسقاط الصحابي من السند ، وليس بمتعين فيه ، ونقل الحاكم تقييدهم له [ ص: 170 ] باتصال سنده إلى التابعي ، وقيده في " المدخل " بما لم يأت اتصاله من وجه آخر ، كما سيأتي كل منهما .

وكذا قيده شيخنا بما سمعه التابعي من غير النبي - صلى الله عليه وسلم - ليخرج من لقيه كافرا فسمع منه ، ثم أسلم بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - وحدث بما سمعه منه ، كالتنوخي رسول هرقل ; فإنه مع كونه تابعيا محكوم لما سمعه بالاتصال لا الإرسال ، وهو متعين ، وكأنهم أعرضوا عنه لندوره .

وخرج بقيد التابعي مرسل الصحابي ; كبيرا كان أو صغيرا ، وسيأتي آخر الباب ، وشمل إطلاقه الكبير منهم ، وهو الذي لقي جماعة من الصحابة وجالسهم ، وكانت جل روايته عنهم ، والصغير الذي لم يلق منهم إلا العدد اليسير ، أو لقي جماعة ، إلا أن جل روايته عن التابعين ( وقيده بـ ) التابعي ( الكبير ) كما هو مقتضى القول بأن مرفوع صغير التابعين إنما يسمى منقطعا .

قال ابن عبد البر في مقدمة ( التمهيد ) : المرسل أوقعوه بإجماع على حديث التابعي الكبير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومثل بجماعة منهم قال : وكذلك من دونهم ويسمى جماعة ؟ .

قال : وكذلك يسمى من دونهم أيضا ممن صح له لقاء جماعة من الصحابة ومجالستهم قال : ومثله أيضا مرسل من دونهم ، فأشار بهذا الأخير إلى مراسيل صغار [ ص: 171 ] التابعين ، ثم قال : وقال آخرون : لا يعني لا يكون حديث صغار التابعين مرسلا ، بل يسمى منقطعا ; لأنهم لم يلقوا من الصحابة إلا الواحد أو الاثنين ، فأكثر روايتهم عن التابعين .

وإلى هذا الاختلاف أشار ابن الصلاح بقوله : وصورته التي لا خلاف فيها حديث التابعي الكبير .

قال شيخنا : ولم أر التقييد بالكبير صريحا عن أحد ، نعم قيد الشافعي المرسل الذي يقبل إذا اعتضد - كما سيأتي - بأن يكون من رواية التابعي الكبير ، ولا يلزم من ذلك أنه لا يسمي ما رواه التابعي الصغير مرسلا ، بل الشافعي مصرح بتسمية رواية من دون كبار التابعين مرسلة ، وذلك في قوله : ومن نظر في العلم بخبرة وقلة غفلة ، استوحش من مرسل كل من دون كبار التابعين بدلائل ظاهرة .

( أو سقط راو منه ) أي : المرسل ما سقط راو من سنده ; سواء كان في أوله أو آخره ، أو بينهما واحد أو أكثر ، كما يومئ إليه تنكير " راو " ، وجعله اسم جنس ; ليشمل - كما صرح به الشارح - سقوط راو فأكثر ; بحيث يدخل فيه المنقطع والمعضل والمعلق ، وهو ظاهر عبارة الخطيب ; حيث أطلق الانقطاع ، فإنه قال في كفايته : المرسل هو ما انقطع إسناده ; بأن يكون في رواية من لم يسمعه ممن فوقه .

وكذا قال في موضع آخر منها : لا خلاف بين أهل العلم أن إرسال الحديث الذي ليس بمدلس ، هو رواية الراوي عمن لم يعاصره ; كالتابعين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وابن جريج عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، ومالك عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، أو عمن عاصره ولم يلقه ; كالثوري ، وشعبة عن الزهري .

قال : وما كان نحو ذلك ، فالحكم فيه وكذا فيمن لقي من [ ص: 172 ] أضاف إليه ، وسمع منه ، إلا أنه لم يسمع منه ذلك الحديث - واحد .

وحاصله التسوية بين الإرسال الظاهر والخفي ، والتدليس في الحكم ، ونحوه قول أبي الحسن بن القطان في " بيان الوهم والإيهام " كما سيأتي في التدليس - : الإرسال : رواية الراوي عمن لم يسمع منه ، وهو الذي حكاه ابن الصلاح عن الفقهاء والأصوليين ، بل وعن الخطيب ، فإنه قال : والمعروف في الفقه وأصوله أن ذلك كله - أي : المنقطع والمعضل - يسمى مرسلا .

قال : وإليه ذهب من أهل الحديث الخطيب ، وقطع به ، ونحوه قول النووي في شرح مسلم : المرسل عند الفقهاء والأصوليين والخطيب وجماعة من المحدثين - : ما انقطع إسناده على أي وجه كان ، فهو عندهم بمعنى المنقطع ; فإن قوله : ( على أي وجه كان ) يشمل الابتداء والانتهاء ، وما بينهما الواحد فأكثر .

وأصرح منه قوله في شرح المهذب : ومرادنا بالمرسل هنا : ما انقطع إسناده ، فسقط من رواته واحد فأكثر ، وخالفنا أكثر المحدثين ، فقالوا : هو رواية التابعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . انتهى .

وممن صرح بنحوه من المحدثين الحاكم ; فإنه قال في المدخل وتبعه البغوي في شرح السنة : وهو قول التابعي أو تابع التابعي : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وبينه وبين الرسول قرن أو قرنان ، ولا يذكر سماعه من الذي سمعه ، يعني في رواية أخرى ، كما سيأتي أواخر الباب ، ولكن الذي مشى عليه في علومه خلاف ذلك ، وكذا أطلق أبو نعيم في " مستخرجه " على التعليق مرسلا .

وممن أطلق [ ص: 173 ] المرسل على المنقطع من أئمتنا أبو زرعة ، وأبو حاتم ، ثم الدارقطني ، ثم البيهقي ، بل صرح البخاري في حديث لإبراهيم بن يزيد النخعي ، عن أبي سعيد الخدري ; بأنه مرسل ; لكون إبراهيم لم يسمع من أبي سعيد .

وكذا صرح هو وأبو داود في حديث لعون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن مسعود ; بأنه مرسل ; لكونه لم يدرك ابن مسعود ، والترمذي في حديث لابن سيرين عن حكيم بن حزام ; بأنه مرسل ، وإنما رواه ابن سيرين عن يوسف بن ماهك عن حكيم ، وهو الذي مشى عليه أبو داود في مراسيله في آخرين .

وأما أبو الحسن بن القطان من متقدمي أئمة أصحابنا ; فإنه قال : المرسل : أن يروي بعض التابعين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خبرا ، أو يكون بين الراوي وبين رجل رجل .

وقال الأستاذ أبو منصور : المرسل : ما سقط من إسناده واحد ، فإن سقط أكثر فهو معضل ، ثم إنه على القول بشموله المعضل والمعلق ، قد توسع من أطلقه من الحنفية على قول الرجل من أهل هذه الأعصار : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - كذا .

وكان ذلك سلف الصفدي ; حيث قال في تذكرته حكاية عن بعض المتأخرين : المرسل : ما وقع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير عنعنة ، والمسند : ما رفع راويه بالعنعنة .

فإن الظاهر أن قائله أراد بالعنعنة الإسناد ، فهو كقول ابن الحاجب تبعا لغيره من [ ص: 174 ] أئمة الأصول : المرسل قول غير الصحابي : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه يتناول ما لو كثرت الوسائط .

ولكن قد قال العلائي : إن الظاهر عند التأمل في أثناء استدلالهم أنهم لا يريدونه ، بل إنما مرادهم ما سقط منه التابعي مع الصحابي ، أو ما سقط منه اثنان بعد الصحابي ، ونحو ذلك ، ويدل عليه قول إمام الحرمين في البرهان ، مثاله أن يقول الشافعي : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا ، وإلا فيلزم من الإطلاق المتقدم بطلان اعتبار الأسانيد التي هي من خصائص هذه الأمة ، وترك النظر في أحوال الرواة ، والإجماع في كل عصر على خلاف ذلك ، وظهور فساده غني عن الإطالة فيه . انتهى .

ولذلك خصه بعض المحققين من الحنفية بأهل الأعصار الأول - يعني القرون الفاضلة - لما صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم .

قال الراوي : فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة ؟ وفي رواية : جزم فيها بثلاثة بعد قرنه بدون شك ، " ثم يفشو الكذب " .

وفي رواية : ثم ذكر قوما يشهدون ولا يستشهدون ، ويخونون ولا يؤتمنون ، وينذرون ولا يوفون .

[ ص: 175 ] وحينئذ فالمرسل ( ذو أقوال ) الثالث أوسعها ، والثاني أضيقها ( والأول الأكثر في استعمال ) أهل الحديث ; كما قاله الخطيب ، وعبارته عقب حكاية الثالث من كفايته إلا أن أكثر ما يوصف بالإرسال من حيث الاستعمال ما رواه التابعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أما ما رواه تابع التابعي فيسمونه المعضل .

بل صرح الحاكم في علومه بأن مشايخ الحديث لم يختلفوا أنه هو الذي يرويه المحدث بأسانيد متصلة إلى التابعي ، ثم يقول التابعي : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ووافقه غيره على حكاية الاتفاق .

التالي السابق


الخدمات العلمية