الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 245 ] إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق .

إن كان هذا جوابا للقسم على بعض المفسرين كما تقدم ، كان ما بين القسم وما بين هذا كلاما معترضا يقصد منه التوطئة لوعيدهم بالعذاب والهلاك بذكر ما توعد به نظيرهم ، وإن كان الجواب في قوله : قتل أصحاب الأخدود كان قوله : إن الذين فتنوا المؤمنين بمنزلة الفذلكة لما أقسم عليه ، إذ المقصود بالقسم وما أقسم عليه هو تهديد الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات من مشركي قريش .

وتأكيد الخبر بـ إن للرد على المشركين الذين ينكرون أن تكون عليهم تبعة من فتن المؤمنين .

والذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات : هم مشركو قريش ، وليس المراد أصحاب الأخدود لأنه لا يلاقي قوله : ثم لم يتوبوا إذ هو تعريض بالترغيب في التوبة ، ولا يلاقي دخول الفاء في خبر إن من قوله : فلهم عذاب جهنم كما سيأتي .

وقد عد من الذين فتنوا المؤمنين أبو جهل رأس الفتنة ومسعرها ، وأمية بن خلف ، وصفوان بن أمية ، والأسود بن عبد يغوث ، والوليد بن المغيرة ، وأم أنمار ، ورجل من بني تيم .

والمفتونون : عد منهم بلال بن رباح ، كان عبدا لأمية بن خلف فكان يعذبه ، وأبو فكيهة كان عبدا لصفوان بن أمية ، وخباب بن الأرت كان عبدا لأم أنمار ، وعمار بن ياسر وأبوه ياسر وأخوه عبد الله كانوا عبيدا لأبي حذيفة بن المغيرة فوكل بهم أبا جهل ، وعامر بن فهيرة كان عبدا لرجل من بني تيم .

والمؤمنات المفتونات منهن : حمامة أم بلال أمة أمية بن خلف ، وزنيرة ، وأم عنيس كانت أمة للأسود بن عبد يغوث ، والنهدية وابنتها كانتا للوليد بن المغيرة ، ولطيفة ، ولبينة بنت فهيرة كانت لعمر بن الخطاب قبل أن يسلم كان عمر يضربها ، وسمية أم عمار بن ياسر كانت لعم أبي جهل .

[ ص: 246 ] وفتن ورجع إلى الشرك الحارث بن ربيعة بن الأسود ، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة ، وعلي بن أمية بن خلف ، والعاصي بن المنبه بن الحجاج .

وعطف المؤمنات للتنويه بشأنهن لئلا يظن أن هذه المزية خاصة بالرجال ، ولزيادة تفظيع فعل الفاتنين بأنهم اعتدوا على النساء والشأن أن لا يتعرض لهن بالغلظة .

وجملة ثم لم يتوبوا معترضة . وثم فيها للتراخي الرتبي ; لأن الاستمرار على الكفر أعظم من فتنة المؤمنين .

وفيه تعريض للمشركين بأنهم إن تابوا وآمنوا سلموا من عذاب جهنم .

والفتن : المعاملة بالشدة والإيقاع في العناء الذي لا يجد منه مخلصا إلا بعناء أو ضر أخف أو حيلة ، وتقدم عند قوله تعالى : والفتنة أشد من القتل في سورة البقرة .

ودخول الفاء في خبر إن من قوله : فلهم عذاب جهنم لأن اسم إن وقع موصولا والموصول يضمن معنى الشرط في الاستعمال كثيرا . فتقدير : إن الذين فتنوا المؤمنين ثم إن لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ; لأن عطف قوله : ثم لم يتوبوا مقصود به معنى التقييد فهو كالشرط .

وجملة ولهم عذاب الحريق عطف في معنى التوكيد اللفظي في جملة لهم عذاب جهنم . واقترانها بواو العطف للمبالغة في التأكيد بإيهام أن من يريد زيادة تهديدهم بوعيد آخر فلا يوجد أعظم من الوعيد الأول . مع ما بين عذاب جهنم وعذاب الحريق من اختلاف في المدلول وإن كان مآل المدلولين واحدا . وهذا ضرب من المغايرة يحسن عطف التأكيد .

على أن الزج بهم في جهنم عذاب قبل أن يذوقوا عذاب حريقها لما فيه من الخزي والدفع بهم في طريقهم قال تعالى : يوم يدعون إلى نار جهنم دعا فحصل بذلك اختلاف ما بين الجملتين .

ويجوز أن يراد بالثاني مضاعفة العذاب لهم كقوله تعالى : الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب .

[ ص: 247 ] ويجوز أن يراد بعذاب الحريق حريق بغير جهنم وهو ما يضرم عليهم من نار تعذيب قبل يوم الحساب كما جاء في الحديث القبر حفرة من حفر جهنم أو روضة من رياض الجنة رواه البيهقي في سننه عن ابن عمر .

التالي السابق


الخدمات العلمية