الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 288 ] 450 - باب بيان مشكل ما اختلف أهل العلم فيه من أكثر مدة الحمل بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك .

2859 - حدثنا علي بن عبد الرحمن بن محمد بن المغيرة ، قال : حدثنا عفان بن مسلم ، قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد ، عن الحارث بن حصيرة ، قال : حدثنا زيد بن وهب ، قال : قال أبو ذر : لأن أحلف عشر مرار أن ابن صياد هو الدجال أحب إلي من أن أحلف مرة واحدة إنه ليس به ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعثني إلى أمه ، فقال : سلها كم حملت به ؟ فسألتها ، فقالت : حملت به اثني عشر شهرا ، ثم أرسلني إليها المرة الثانية ، فقال : سلها عن صياحه حين وقع ، فأتيتها فسألتها ، فقالت : صاح صياح الصبي ابن شهرين ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني قد خبأت لك خبيئا ، قال : خبأت لي عظم شاة عفراء والدخان ، فأراد أن يقول الدخان ، فلم يستطع ، فقال : الدخ الدخ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اخسأ ، فإنك لن تسبق القدر .

[ ص: 289 ] فكان هذا الحديث حكاية أبي ذر عن أم ابن صياد أنها حملت به اثني عشر ، وليس فيه رجوعه بذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فينكره أو لا ينكره ، فنظرنا هل نجد ذلك في هذا من غير هذه الرواية .

2860 - فوجدنا إسحاق بن إبراهيم بن يونس البغدادي قد حدثنا ، قال : حدثنا علي بن معبد بن نوح البغدادي ، قال : حدثنا معلى بن منصور ، عن عبد الواحد ، يعني : ابن زياد ، عن الحارث بن حصيرة ، عن زيد بن وهب ، قال : سمعت أبا ذر يقول : لأن أحلف عشرا إن ابن صياد هو الدجال أحب إلي من أن أحلف يمينا واحدة إنه ليس هو ، وذلك لشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم ابن صياد ، فقال : سلها كم حملت به ؟ فسألتها ، فقالت : حملت به اثني عشر شهرا ، [ ص: 290 ] فأتيته فأخبرته ، ثم ذكر بقية الحديث .

فكان في هذا إخبار أبي ذر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أم ابن صياد أنها حملت به اثني عشر شهرا ، فلم يكن من رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع لذلك ، ولو كان محالا لأنكره عليها ودفعه من قولها ، وفي ذلك ما قد دل أن الحمل قد يكون أكثر من تسعة أشهر على ما قد قاله فقهاء الأمصار في ذلك من أهل المدينة وأهل الكوفة ، وممن سواهم من فقهاء أهل الأمصار سوى هذين المصرين ، وإن كانوا يختلفون في مقدار أكثر المدة في ذلك ، فتقول طائفة منهم : إنه سنتان لا أكثر منهما ، وممن كان يقول ذلك منهم : أبو حنيفة والثوري ، وسائر أصحاب أبي حنيفة ، وطائفة منهم تقول : هو أربع سنين لا أكثر منها ، وممن كان يقول ذلك منهم كثير من قدماء أهل الحجاز ، وبه يقول الشافعي ، وطائفة منهم تقول : إنه يتجاوز ذلك إلى ما هو أكثر منه من الزمان منهم مالك بن أنس ، واحتجنا عند اختلافهم هذا إلى طلب الأولى مما قالوه من هذه الأقاويل ، فوجدنا الله - عز وجل - قد قال في كتابه العزيز : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ، فكان في ذلك جمع الحمل والفصال في ثلاثين شهرا ، فلا يجوز أن يخرجا ولا واحد منهما عنها ، وإذا لم يكن في هذا الباب غير هذه الثلاثة الأقاويل اللاتي ذكرنا ، فكان [ ص: 291 ] في قولين منها الخروج عن الشهور إلى ما هو أكثر منها انتفى هذان القولان إذ كان كتاب الله قد دفعهما ، ولم يبق إلا القول الآخر الذي لم يخرج به قائلوه عن الثلاثين شهرا التي جعلها الله عز وجل مدة للحمل وللفصال جميعا ، وهو الحولان ، فكان هو الأولى مما قيل في هذا الباب .

فقال قائل : فإذا جعلتم الحمل والفصال ثلاثين شهرا لا أكثر منها ، فكم تكون مدة الفصال من هذه الثلاثين شهرا .

فكان جوابنا له بتوفيق الله عز وجل : أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قد روي عنه في ذلك . :

ما قد حدثنا إبراهيم بن أبي داود ، قال : حدثنا فروة بن أبي المغراء الكوفي ، قال : حدثنا علي بن مسهر ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إذا وضعت المرأة في تسعة أشهر كفاه من الرضاع واحد وعشرون شهرا ، وإذا وضعت لسبعة أشهر كفاه من الرضاع ثلاثة وعشرون شهرا ، وإذا وضعت لستة أشهر فحولان كاملان لأن الله - تعالى - يقول : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا .

[ ص: 292 ]

وما قد حدثنا يحيى بن عثمان ، قال : حدثنا نعيم بن حماد ، قال : حدثنا حفص بن غياث ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إذا كان الحمل تسعة أشهر كفاها من الرضاع أحد وعشرون شهرا ، وإذا حملت ستة أشهر كفاها من الرضاع أربعة وعشرون شهرا ، ثم قرأ ابن عباس : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا .

[ ص: 293 ] قال أبو جعفر : ففي هذا الحديث أن ابن عباس لم يخرج الحمل والفصال من الثلاثين شهرا ، وفي ذلك ما قد دل على أن الحمل كان عنده لا يخرج عن الثلاثين شهرا ، وإذا كان ذلك كذلك وكان الحمل حولين كان الباقي من الثلاثين شهرا ستة أشهر ، فكان ذلك مما قد سأل عنه بعض من سأل ، فقال : أفيجوز أن يكون الفصال ستة أشهر ، وأبدان الصبيان لا تقوم بها ؟ لأنهم يحتاجون من الرضاع إلى مدة هي أكثر منها .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه أنه قد يحتمل أن يكون المولودون بعد مضي تلك الستة الأشهر يرجعون إلى لطيف الغذاء ، فيكون ذلك عيشا لهم وغنى لهم عن الرضاع ، غير أنا تأملنا ما في كتاب الله من ذكر الحمل والفصال فوجدنا منه الآية التي قد تلوناها فيما تقدم منا في هذا الباب .

ووجدنا منه قول الله - عز وجل - : وفصاله في عامين ، فجعل الفصال في هذه الآية من المدة عامين .

ووجدنا منه قوله عز وجل : والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ، فكان في هاتين الآيتين الأخيرتين إثبات الحولين للفصال ، فاحتمل عندنا - والله أعلم - أن يكون الله - عز وجل - جعل الحمل والفصال ثلاثين شهرا لا أكثر منها على ما في الآية الأولى [ ص: 294 ] مما قد يحتمل أن يكون مدة الفصال فيها قد ترجع إلى ستة أشهر ، ثم زاد الله - عز وجل - في مدة الفصال تمام الحولين بالآيتين الأخيرتين ، فرد حكم الفصال إلى جهته من الثلاثين شهرا وعلى تتمة الحولين على ما في الآيتين الأخريين ، وبقي مدة الحمل على ما في الآية الأولى ، فلم يخرجه من الثلاثين شهرا ، وأخرج مدة الفصال من الثلاثين شهرا إلى ما أخرجها إليه بالآيتين الأخريين ، والله عز وجل أعلم بمراده في ذلك وبما كان منه فيه .

والدليل على صحة ما قد ذكرناه المراعاة بالرضاع حولين ، وقد قال ذلك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غير واحد ، منهم ابن عباس رضي الله عنه .

كما قد حدثنا أحمد بن داود ، قال : حدثنا يعقوب بن حميد ، قال : حدثنا أنس بن عياض ، عن يونس بن يزيد ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لا رضاع بعد حولين كاملين .

[ ص: 295 ]

كما حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : أنبأنا سفيان ، عن عمرو ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لا رضاع بعد حولين .

قال أبو جعفر : فهذا ابن عباس قد قصد إلى الرضاع بالحولين ، فدل ذلك أنهما له عنده مدة ، وأكثر فقهاء الأمصار على ذلك .

فكان في ذلك ما قد دل على التأويل الذي تأولناه في الثلاث [ ص: 296 ] الآيات التي تلوناها في هذا الباب .

وقال قائل : قد ذكرت في مدة الحمل في هذا الباب ما ذكرته من نقل أبي ذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن أم ابن صياد أنها حملت به اثني عشر شهرا ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر ذلك ، وجعلت ذلك حجة على من نفى أن يكون الحمل أكثر من تسعة أشهر ، وابن صياد قد يحتمل أن يكون كان مخصوصا في حمل أمه به في هذه المدة ؛ ليكون آية للعالمين لما ذكر فيه من أنه الدجال .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه : أنه إنما يكون هذا الاحتمال يرجو أنه الدجال الذي حذر النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن قبله من الأنبياء عليهم السلام أممهم منه ، وذكروا لهم أحواله التي يكون عليها وادعاءه أنه لهم إله ، ومكثه في الأرض بما يمكثه فيها ، ومنع الله - عز وجل - إياه من حرمه وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم ، ونزول عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم ليقتله في الموضع الذي يقتله فيه .

ولم يوجد هذا في ابن صياد ؛ لأنه قد كان في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتله ، ولو كان الدجال نفسه لقتله ، ولو كان الذي قيل فيه من ذلك قيل إنه دجال ، لما أنكر أن يكون دجالا ، ويكون بعده دجالون ، وإن تفاضلوا فيما يكونون عليه في ذلك ويتباينون فيه ، ولكنه قيل إنه الدجال ، فعاد [ ص: 297 ] ذلك إلى الدجال الذي هو الدجال ، وقد قامت الحجة بخلاف ذلك ، وسنذكر ما روي فيه من الآثار فيما بعد من كتابنا هذا إن شاء الله ، وإذا أخرج أن يكون هو الدجال الذي ذكرنا كان كأحد بني آدم في خلقه في مدة حمله ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية