الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ( قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون ( 31 ) وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون ( 32 ) قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ( 33 ) )

                                                                                                                                                                                                                                      ( قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله ) أي : خسروا أنفسهم بتكذيبهم المصير إلى الله بالبعث بعد الموت ، ( حتى إذا جاءتهم الساعة ) أي : القيامة ( بغتة ) أي : فجأة ، ( قالوا يا حسرتنا ) ندامتنا ، [ ذكر ] على وجه النداء للمبالغة ، وقال سيبويه : كأنه يقول : أيتها الحسرة هذا أوانك ( على ما فرطنا ) أي : قصرنا ( فيها ) أي : في الطاعة ، وقيل : تركنا في الدنيا من عمل الآخرة . [ ص: 139 ]

                                                                                                                                                                                                                                      قال محمد بن جرير : الهاء راجعة إلى الصفقة ، وذلك أنه لما تبين لهم خسران صفقتهم ببيعهم الآخرة بالدنيا قالوا : يا حسرتنا على ما فرطنا فيها ، أي : في الصفقة [ فترك ذكر الصفقة ] اكتفاء بقوله ( قد خسر ) لأن الخسران إنما يكون في صفقة بيع ، والحسرة شدة الندم ، حتى يتحسر النادم ، كما يتحسر الذي تقوم به دابته في السفر البعيد ، ( وهم يحملون أوزارهم ) أثقالهم وآثامهم ، ( على ظهورهم ) قال السدي وغيره : إن المؤمن إذ أخرج من قبره استقبله أحسن شيء صورة وأطيبه ريحا فيقول له : هل تعرفني؟ فيقول : لا فيقول : أنا عملك الصالح فاركبني ، فقد طالما ركبتك في الدنيا ، فذلك قوله عز وجل : ( يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ) ( مريم ، 85 ) أي : ركبانا ، وأما الكافر فيستقبله أقبح شيء صورة وأنتنه ريحا ، فيقول : هل تعرفني؟ فيقول : لا . فيقول : أنا عملك الخبيث طالما ركبتني في الدنيا فأنا اليوم أركبك ، فهذا معنى قوله : ( وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون ) يحملون قال ابن عباس : بئس الحمل حملوا .

                                                                                                                                                                                                                                      ( وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو ) باطل وغرور لا بقاء لها ( وللدار الآخرة ) قرأ ابن عامر ( ولدار الآخرة ) مضافا أضاف الدار إلى الآخرة ، ويضاف الشيء إلى نفسه عند اختلاف اللفظين ، كقوله : ( وحب الحصيد ) ، وقولهم : ربيع الأول ومسجد الجامع ، سميت الدنيا لدنوها ، وقيل : لدناءتها ، وسميت الآخرة لأنها بعد الدنيا ، ( خير للذين يتقون ) الشرك ، ( أفلا تعقلون ) أن الآخرة أفضل من الدنيا ، قرأ أهل المدينة وابن عامر ويعقوب ( أفلا تعقلون ) بالتاء هاهنا وفي الأعراف وسورة يوسف و " يس " ، ووافق أبو بكر في سورة يوسف ، ووافق حفص إلا في سورة " يس " ، وقرأ الآخرون بالياء فيهن .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله عز وجل : ( قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون ) قال السدي : التقى الأخنس بن شريق وأبو جهل بن هشام ، فقال الأخنس لأبي جهل يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هاهنا أحد يسمع كلامك غيري ، قال أبو جهل : والله إن محمدا لصادق ، وما كذب محمد قط ، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ناجية بن كعب : قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم لا نتهمك ولا نكذبك ، ولكنا نكذب الذي جئت [ ص: 140 ] به ، فأنزل الله تعالى : ( قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون ) .

                                                                                                                                                                                                                                      ( قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون ) بأنك كاذب ، ( فإنهم لا يكذبونك ) قرأ نافع والكسائي بالتخفيف ، وقرأ الآخرون بالتشديد من التكذيب ، والتكذيب هو أن تنسبه إلى الكذب ، وتقول له : كذبت ، والإكذاب هو أن تجده كاذبا ، تقول العرب : أجدبت الأرض وأخصبتها إذا وجدتها جدبة ومخصبة ، ( ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ) يقول : إنهم لا يكذبونك في السر لأنهم عرفوا صدقك فيما مضى ، وإنما يكذبون وحيي ويجحدون آياتي ، كما قال : " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم " ( النمل ، 94 ) .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية