الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون )

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أن هذا هو النوع الثالث من قبائح أقوالهم وأفعالهم وهو جزمهم بأن الله تعالى لا يعذبهم إلا أياما قليلة ، وهذا الجزم لا سبيل إليه بالعقل البتة أما على قولنا فلأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد عليه في فعله ، فلا طريق إلى معرفة ذلك إلا بالدليل السمعي ، وأما على قول المعتزلة فلأن العقل يدل عندهم على أن المعاصي يستحق بها من الله العقاب الدائم ، فلما دل العقل على ذلك احتيج في تقدير العقاب مدة ثم في زواله بعدها إلى سمع يبين ذلك ، فثبت أن على المذهبين لا سبيل إلى معرفة ذلك إلا بالدليل السمعي ، وحيث توجد الدلالة السمعية لم يجز الجزم بذلك ، وههنا مسألتان :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : ذكروا في تفسير الأيام المعدودة وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن لفظ الأيام لا تضاف إلا إلى العشرة [ ص: 130 ] فما دونها ، ولا تضاف إلى ما فوقها . فيقال : أيام خمسة وأيام عشرة ولا يقال أيام أحد عشر إلا أن هذا يشكل بقوله تعالى : ( كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات ) [ البقرة : 183 ] هي أيام الشهر كله ، وهي أزيد من العشرة . ثم قال القاضي : إذا ثبت أن الأيام محمولة على العشرة فما دونها فالأشبه أن يقال : إنه الأقل أو الأكثر لأن من يقول ثلاثة يقول أحمله على أقل الحقيقة فله وجه ، ومن يقول : عشرة ، يقول : أحمله على الأكثر وله وجه ، فأما حمله على الواسطة أعني على ما هو أقل من العشرة وأزيد من الثلاثة فلا وجه له ، لأنه ليس عدد أولى من عدد اللهم إلا إذا جاءت في تقديرها رواية صحيحة فحينئذ يجب القول بها ، وجماعة من المفسرين قدروها بسبعة أيام ، قال مجاهد : إن اليهود كانت تقول : الدنيا سبعة آلاف سنة فالله تعالى يعذبهم مكان كل ألف سنة يوما ، فكانوا يقولون : إن الله تعالى يعذبنا سبعة أيام . وحكى الأصم عن بعض اليهود أنهم عبدوا العجل سبعة أيام فكانوا يقولون : إن الله تعالى يعذبنا سبعة أيام وهذان الوجهان ضعيفان .

                                                                                                                                                                                                                                            أما الأول : فلأنه ليس بين كون الدنيا سبعة آلاف سنة وبين كون العذاب سبعة أيام مناسبة وملازمة البتة .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الثاني : فلأنه لا يلزم من كون المعصية مقدرة بسبعة أيام أن يكون عذابها كذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            أما على قولنا فلأنه يحسن من الله كل شيء بحكم المالكية ، وأما عند المعتزلة فلأن العاصي يستحق على عصيانه العقاب الدائم ما لم توجد التوبة أو العفو ، فإن قيل : أليس أنه تعالى منع من استيفاء الزيادة فقال : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) [ الشورى : 40 ] فوجب أن لا يزيد العقاب على المعصية ؟ قلنا : إن المعصية تزداد بقدر النعمة ، فلما كانت نعم الله على العباد خارجة عن الحصر والحد لا جرم كانت معصيتهم عظيمة جدا .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : روي عن ابن عباس أنه فسر هذه الأيام بالأربعين ، وهو عدد الأيام التي عبدوا العجل فيها ، والكلام عليه أيضا كالكلام على السبعة .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثالث " : قيل في معنى " معدودة " قليلة ، كقوله تعالى : ( وشروه بثمن بخس دراهم معدودة ) [ يوسف : 20 ] والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية ؛ ذهبت الحنفية إلى أن أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة ، واحتجوا عليه بقوله صلى الله عليه وسلم : " دعي الصلاة أيام أقرائك " ، فمدة الحيض ما يسمى أياما وأقل عدد يسمى أياما ثلاثة وأكثره عشرة على ما بيناه ، فوجب أن يكون أقل الحيض ثلاثة وأكثره عشرة ، والإشكال عليه ما تقدم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : ذكر ههنا : ( وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) وفي آل عمران : ( إلا أياما معدودات ) ولقائل أن يقول : لم كانت الأولى معدودة والثانية معدودات والموصوف في المكانين موصوف واحد وهو " أياما " ؟

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : أن الاسم إن كان مذكرا فالأصل في صفة جمعه التاء ، يقال : كوز وكيزان مكسورة وثياب مقطوعة ، وإن كان مؤنثا كان الأصل في صفة جمعه الألف والتاء ، يقال : جرة وجرار مكسورات وخابية وخوابي مكسورات . إلا أنه قد يوجد الجمع بالألف والتاء فيما واحده مذكر في بعض الصور نادرا نحو حمام وحمامات وجمل سبطر وسبطرات وعلى هذا ورد قوله تعالى : ( في أيام معدودات ) [ البقرة : 203 ] و ( في أيام معلومات ) [ الحج : 28 ] فالله تعالى تكلم في سورة البقرة بما هو الأصل وهو قوله : ( أياما معدودة ) وفي آل عمران بما هو الفرع .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية