الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما علم من ذلك إحاطة علمه سبحانه وتعالى وشمول قدرته علم ما له سبحانه من باهر العظمة وقاهر العزة، فنقل الكلام إلى أسلوبها تنبيها على ذلك عاطفا على ما تقديره: خابت ظنونهم وفالت آراؤهم فلنخرجن ما يبالغون في ستره حتى لا ندع منه شيئا يريدون إخفاءه إلا كشفناه وأبديناه للناس وأوضحناه، فإنا نعلمهم ونعلم ذلك منهم من قبل أن نخلقهم، فلو نشاء لفضحناهم حتى يعرفهم الناس أجمعون، فلا يخفى منهم أحد على أحد [منهم] فقال تعالى: ولو ويجوز أن تكون واوه للحال؛ أي: أم حسبوا ذلك والحال أنا لو نشاء أي: وقعت منا مشيئة الآن أو قبله أو بعده. ولما كانوا لشدة جهلهم لا يتصورون أن سرائرهم كلها معلومة مقدور على أن يعلمها بشر مثلهم، أكد قوله: [ ص: 253 ] لأريناكهم أي: رؤية تامة كاشفة لك الغطاء عنهم فلعرفتهم أي: فتعقبت رؤيتك إياهم معرفتك لهم أنت بخصوصك بسيماهم أي: بسبب علاماتهم التي نجعلها عالية عليهم [غالبة لهم] في إظهار ضمائرهم عليها لا يقدرون على مدافعتها بوجه، ولم يذكرهم سبحانه بأسمائهم إبقاء على قراباتهم المخلصين من الفتن.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما انقضى ما علق بالمشيئة مما كان ممكنا له في الماضي وغيره، عطف عليه ما يجزه له مما كشف من أمرهم في المستقبل فقال مؤكدا لاستبعاد من يستبعد ذلك منهم أو ممن شاركهم في مرض القلب من غيرهم فقال في جواب قسم محذوف دل عليه باللام: ولتعرفنهم أي: بعد هذا الوقت معرفة تتجدد بحسب تجدد أقوالهم مستمرة باستمرار ضمائرهم الخبيثة وإسرارهم في لحن القول أي: الصادر منهم، ولحنه فحواه؛ أي معناه. ومذهبه [و] ما يدل عليه ويلوح به من مثله عن حقائقه إلى عواقبه وما "يؤل إليه" أمره مما يخفى على غيرك، [ ص: 254 ] وقال ابن برجان : هو ما تنحو إليه بلسانك؛ أي: تميل إليه ليفطن لك صاحبك وتخفيه على من لم يكن له عهد بمرادك، وعلى القول بالتحقيق فلحن القول ما يبدو من غرض الكلام وخفيات الخطاب وسياق اللفظ وهيئة السحنة حال القول وإن لم يرد المتكلم أن يظهره ولكنه على الأغلب يغلبه حالا، فلا يقدر على كل كتمه وإن كان في تكليمه معتمدا على ذلك، وحقيقته حال يلوح عن السر وإظهار كلام الباطن يكاد يناقض كلام اللسان بحال خفية ومعان يقف عليها باطن التخاطب [و] قال:


                                                                                                                                                                                                                                      ولقد لحنت لكم لكيما تفقهوا واللحن يعرفه ذوو الألباب

                                                                                                                                                                                                                                      وقال [آخر]:


                                                                                                                                                                                                                                      عيناك قد دلتا عيناي منك على     أشياء لولاهما ما كنت أدريها

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو حيان : كانوا اصطلحوا على ألفاظ يخاطبون بها الرسول صلى الله عليه وسلم مما ظاهره حسن ويعنون به القبيح، وقال الأصبهاني : وقيل للمخطئ: لاحن؛ لأنه يعدل بالكلام عن الصواب: وقال البغوي : للحن وجهان: صواب [وخطأ]، فالفعل من الصواب لحن يلحن [ ص: 255 ] لحنا فهو لحن، إذا فطن للشيء، والفعل من الخطأ لحن يلحن لحنا فهو لاحن، والأصل فيه إزالة الكلام عن جهته، [قال]: فكان بعد هذا لا يتكلم منافق عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا عرفه، وقال الثعلبي : وعن أنس رضي الله عنه: ما خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية شيء من المنافقين، [كان يعرفهم بسيماهم، ولقد كنا في غزوة وفيها سبعة من المنافقين] يشكرهم الناس فناموا ذات ليلة وأصبحوا على جبهة كل واحد منهم مكتوب "هذا منافق" ومثل ابن عباس رضي الله عنهم بقوله: "ما لنا إن أطعنا من الثواب" قال: ولا يقولون: [ما لنا] إن عصينا من العقاب.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما أخبر سبحانه أنه يعلم ظواهرهم وبواطنهم، وأنه يجليهم لنبيه صلى الله عليه وسلم في صور ما يخفونه من أقوالهم، وأكد ذلك لعلمه بشكهم فيه، واجههم بالتبكيت زيادة في إهانتهم عاما لغيرهم إعلاما بأنه محيط بالكل فقال عاطفا على ما تقديره: فالله يعلم أقولكم: والله أي: مما له من صفات الكمال يعلم أعمالكم كلها الفعلية والقولية جليها وخفيها، علما ثابتا غيبيا وعلما راسخا شهوديا يتجدد [ ص: 256 ] بحسب تجددها مستمرا باستمرار ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية