الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب ما روى مالك عن عثمان بن عفان وخالفه في تخمير المحرم وجهه .

سألت الشافعي : أيخمر المحرم وجهه ؟ فقال : نعم ولا يخمر رأسه وسألته عن المحرم يصطاد من أجله الصيد قال : لا يأكله فإن أكله فقد أساء ولا فدية عليه فقلت : وما الحجة ؟ فقال : أخبرنا مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال : رأيت عثمان بن عفان بالعرج في يوم صائف وهو محرم وقد غطى وجهه بقطيفة أرجوان ثم أتي بلحم صيد فقال لأصحابه : كلوا فقالوا : ألا تأكل أنت ؟ قال : إني لست كهيئتكم إنما صيد من أجلي فقلت : إنا نكره تخمير الوجه للمحرم ويكرهه صاحبنا ويروي فيه عن ابن عمر أنه قال : ما فوق الذقن من الرأس فلا يخمره المحرم .

( قال الشافعي ) : رحمه الله تعالى أخبرنا سفيان عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن عثمان بن عفان وزيد بن ثابت ومروان كانوا يخمرون وجوههم وهم محرمون فإن كنت ذهبت إلى أن عثمان وابن عمر اختلفا في تخمير الوجه فكيف أخذت بقول ابن عمر دون قول عثمان ومع عثمان زيد بن ثابت ومروان وما هو أقوى من هذا كله ؟ قلت وما هو ؟ قال : { أمر النبي صلى الله عليه وسلم بميت مات محرما أن يكشف عن رأسه دون وجهه ولا يقرب طيبا ويكفن في ثوبيه اللذين مات فيهما } فدلت السنة على أن للمحرم تخمير وجهه وعثمان وزيد رجلان وابن عمر واحد ومعهما مروان فكان ينبغي عندك أن يكون هذا أشبه بالعمل وبدلالة السنة وعثمان الخليفة وزيد ثم مروان بعدهما وقد اختلف عثمان وابن عمر في العبد يباع ويتبرأ صاحبه من العيب فقضى عثمان على ابن عمر أن يحلف ما كان به داء علمه وقد رأى ابن عمر أن التبرؤ يبرئه مما علم لم يعلم فاخترت قول ابن عمر وسمعت من أصحابك من يقول عثمان الخليفة عن قضاه [ ص: 256 ] بين المهاجرين والأنصار كأنه قول عامتهم وقوله بهذا كله أولى أن يتبع من ابن عمر فعثمان إذ كان معه ما وصفت في تخمير المحرم وجهه من دلالة السنة ومن قول زيد ومروان أولى أن يصار إلى قوله مع أنه قول عامة المفتين بالبلدان فقلت : للشافعي : فإنا نقول ما فوق الذقن من الرأس .

قال الشافعي : ينبغي أن يكون من شأنك الصمت حين تسمع كلام الناس حتى تعرف منه فإني أراك تكثر أن تكلم بغير روية فقلت : وما ذلك ؟ فقال : وما تعني بقولك وما فوق الذقن من الرأس ؟ أتعني أن حكمه حكم الرأس في الإحرام ؟ فقلت : نعم فقال : أفتخمر المرأة المحرمة ما فوق ذقنها فإن للمحرمة أن تخمر رأسها فقلت : لا قال : أفيجب على الرجل إذا لبد رأسه حلقه أو تقصيره ؟ فقلت : نعم قال : أفيجب عليه أن يأخذ من شعر ما فوق الذقن من وجهه ؟ فقلت : لا فقال لي الشافعي : وفرق الله بين حكم الوجه والرأس فقال : اغسلوا وجوهكم فعلمنا أن الوجه ما دون الرأس وأن الذقن من الوجه وقال امسحوا برءوسكم فكان الرأس غير الوجه فقلت : نعم قال : وقولك لا كراهة لتخمير الوجه بكماله ولا إباحة تخميره بكماله أنه يجب على من وضع نفسه معلما أن يبدأ فيعرف ما يقول قبل أن يقوله ولا ينطق بما لا يعلم وهذه سبيل لا أراك تعرفها فاتق الله وامسك عن أن تقول بغير علم ولم أر من أدب من ذهب مذهبك إلا أن يقول القول ثم يصمت وذلك أنه " قال : فيما نرى " يعلم أنه لا يصنع شيئا بمناظرة غيره إلا بما أن صمت أمثل به .

قلت للشافعي : فمن أين قلت أي صيد صيد من أجل محرم فأكل منه لم يغرم فيه ؟ فقال : لأن الله جل ثناؤه إنما أوجب غرمه على من قتله فقال عز وجل { ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم } فلما كان القتل غير محرم لم يكن على المحرم فيما جنى غيره فدية كما لو قتل من أجله مسلما لم يكن على المقتول من أجله عقل ولا كفارة ولا قود فإن الله قضى أن لا تزر وازرة وزر أخرى قال : ولما كان الصيد مقتولا فأمسك المحرم عن أكله ومن أجله صيد لم يكن عليه فيه فدية بأن صيد من أجله لم يجز أن يكون صيدا مقتولا لا فدية فيه حين قتل ويأكله بشر لا فدية عليهم فإذا أكله واحد فداه وإنما نقطع الفدية فيه بالقتل فإذا كان القتل ولا فدية لم يجز أن تكون فدية لأنه لم يحدث بعدها قتلا يوجب فدية قلت : إن الأكل غير جائز للمحرم وإنما أمرته بالفدية لذلك قال : وكذلك لا يجوز للمحرم أكل ميتة ولا شرب خمر ولا محرم ولا فدية عليه في شيء من هذا وهو آثم بالأكل والفدية في الصيد إنما تكون بالقتل فقلت : للشافعي : فهل خالفك في هذا غيرنا ؟ فقال : ما علمت أحدا غيركم زعم أن من أكل لحم صيد صيد من أجله فداه بل علمت أن من المشرقيين من قال له أن يأكله لأنه مال لغيره أطعمه إياه ولولا اتباع الحديث فيه لكان القول عندنا قوله ولكنه خالف الحديث فخالفناه فإن كانت لنا عليه حجة بخلاف بعض الحديث فهي لنا عليك بخلافك بعضه وهو يعرف ما يقول وإن زل عندنا ولستم والله يعافينا وإياكم تعرفون كثيرا مما تقولون أرأيت لو أن رجلا أعطى رجلا سلاحا ليقويه على قتل حر أو عبد فقتله المعطى كان على المعطي عقل أو قود ؟ قال : لا ولكنه مسيء آثم بتقوية القاتل قلت : وكذلك لو قتله ولا علم له بجناية على قتله ورضيه قال : نعم .

( قال الشافعي ) : رحمه الله تعالى أفلا ترى هذا أولى أن يكون عليه عقل أو قود أو كفارة ممن قتل من أجله صيد لا يعلمه فأكله ؟ فإذا قلت إنما جعل العقل والقود بالقتل فهذا غير قاتل ( قال الشافعي ) : أخبرنا مالك أن أبا أيوب الأنصاري قال : كان الرجل يضحي بالشاة الواحدة عنه وعن أهله ثم تباهى الناس فصارت مباهاة . .

التالي السابق


الخدمات العلمية