الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              244 [ ص: 533 ] 75 - باب: فضل من بات على الوضوء

                                                                                                                                                                                                                              247 - حدثنا محمد بن مقاتل قال: أخبرنا عبد الله قال: أخبرنا سفيان، عن منصور، عن سعد بن عبيدة، عن البراء بن عازب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت. فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تتكلم به". قال: فرددتها على النبي صلى الله عليه وسلم فلما بلغت: "اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت". قلت: ورسولك. قال: "لا، ونبيك الذي أرسلت". [6311، 6313، 6315، 7488 - مسلم: 2710 - فتح: 1 \ 375]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              حدثنا محمد بن مقاتل، أنا عبد الله، أنا سفيان، عن منصور، عن سعد بن عبيدة، عن البراء بن عازب قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمت وجهي إليك.. " الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              الكلام عليه من وجوه.

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث أخرجه البخاري أيضا في الدعوات، ومسلم هناك، والترمذي فيه، وقال: لا نعلم في شيء من الروايات ذكر الوضوء إلا في هذا الحديث، وأبو داود في الأدب، والنسائي في [ ص: 534 ] "اليوم والليلة".

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها:

                                                                                                                                                                                                                              عبد الله: هو ابن المبارك. ومحمد بن مقاتل: هو المروزي الثقة. مات سنة ست وعشرين ومائتين، ومات بعده محمد بن مقاتل العباداني بعشر سنين، ومحمد بن مقاتل الفقيه الرازي بعشرين.

                                                                                                                                                                                                                              وسفيان: هو الثوري، كما صرح به أبو العباس أحمد بن ثابت الطرقي، وإن كان ابن عيينة روى عن منصور، وعنه ابن المبارك; لاشتهار الثوري بمنصور، وهو أثبت الناس فيه.

                                                                                                                                                                                                                              ومنصور: هو ابن المعتمر. وسعد: سلمي تابعي ثقة. وعبيدة، بضم العين، وليس في الستة سعد بن عبيدة سواه.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 535 ] وخالف إبراهيم بن طهمان أصحاب منصور، فأدخل بين منصور وسعد الحكم بن عتيبة. وانفرد الفريابي بإدخال الأعمش بين الثوري ومنصور.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها:

                                                                                                                                                                                                                              معنى: (إذا أتيت مضجعك) أردت النوم، وهو بفتح الجيم، وعن القرطبي كسرها أيضا كالمطلع وهو موضع الضجع.

                                                                                                                                                                                                                              رابعها:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (فتوضأ) هو للندب; لأن النوم وفاة، وربما يكون موتا، فقد تقبض روحه في نومه، فيكون ختم عمله بالوضوء، فينبغي أن يحافظ على ذلك ولا يفوته.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه سر آخر، وهو أنه أصدق لرؤياه، وأبعد من لعب الشيطان به في منامه وترويعه إياه، وما أحسن هذه الخاتمة والدعاء عقبها الذي هو أفضل الأعمال; ولذلك كان ابن عمر يجعل آخر عمله الوضوء والدعاء، فإذا تكلم بعد ذلك استأنفها ثم ينام على ذلك؛ اقتداء بالشارع في قوله: "واجعلهن آخر ما تكلم به".

                                                                                                                                                                                                                              فرع: هذا الوضوء يتأكد في حق الجنب أيضا عند نومه، ولعله ينشط للغسل، وفي "سنن أبي داود" من حديث أبي ظبية، عن معاذ مرفوعا: "ما من مسلم يبيت على ذكر (طاهرا)، فيتعار من الليل، فيسأل الله خيرا من الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه".

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 536 ] خامسها:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: ("ثم اضطجع على شقك الأيمن") هذا أيضا من سنن النوم، وقد كان صلى الله عليه وسلم يحب التيامن، ولأن النوم بمنزلة الموت، فيستعد له بالهيئة التي يكون عليها في قبره. وقيل: الحكمة فيه: أن يتعلق القلب على الجانب الأيمن، فلا يثقل النوم، فيكون أسرع إلى الانتباه.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن الجوزي: وهذا هو المصلحة في النوم عند الأطباء أيضا؛ فإنهم يقولون: ينبغي أن يضطجع على الجانب الأيمن ساعة، ثم ينقلب إلى الأيسر فينام، فإن النوم على اليمين سبب انحدار الطعام; لأن قصبة المعدة تقتضي ذلك، والنوم على اليسار يهضم، لاشتمال الكبد على المعدة.

                                                                                                                                                                                                                              سادسها:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (اللهم أسلمت وجهي إليك) جاء في رواية أخرى: "أسلمت نفسي إليك" والوجه والنفس هنا بمعنى الذات كلها، كما نقله النووي عن العلماء.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن الجوزي: يحتمل أن يراد به الوجه حقيقة، ويحتمل أن يراد به القصد، فكأنه يقول: قصدتك في طلب سلامي. وقال القرطبي: قيل: إن معنى الوجه: القصد والعمل الصالح؛ ولذلك جاء في رواية: "أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك" فجمع بينهما، فدل على تغايرهما.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 537 ] ومعنى "أسلمت": سلمت واستسلمت، أي: سلمتها لك؛ إذ لا قدرة ولا تدبير بجلب نفع ولا دفع ضر، فأمرها مسلم إليك تفعل فيها ما تريد واستسلمت لما نفعل، فلا اعتراض عليك فيه.

                                                                                                                                                                                                                              سابعها:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (وفوضت أمري إليك)؛ أي: رددت أمري إليك، وبرئت من الحول والقوة إلا بك، فاكفني همه وتول إصلاحه.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (وألجأت ظهري إليك)؛ أي: أسندته وأملته، يقال: لجأ فلان إلى كذا: مال إليه، فمن استند إلى شيء قوي إليك واستعان، وأنت الملجأ والمستعان.

                                                                                                                                                                                                                              ثامنها:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (رغبة ورهبة)؛ أي: رغبة في رفدك وثوابك، وخوفا منك ومن أليم عقابك، وأسقط من الرهبة لفظة "منك" وأعمل لفظة الرغبة بقوله: "إليك" على عادة العرب في أشعارهم.


                                                                                                                                                                                                                              ................. وزججن الحواجب والعيونا



                                                                                                                                                                                                                              والعيون لا تزجج، ولكنه لما جمعهما في النظم حمل أحدهما على حكم الآخر في اللفظ، نبه عليه ابن الجوزي.

                                                                                                                                                                                                                              تاسعها:

                                                                                                                                                                                                                              "لا ملجأ" هو مهموز من ألجأت "ولا منجا" هو غير مهموز من النجاة. و"كتابك" هنا القرآن، وقال الداودي في "شرحه": المراد كتبه كلها. "وبنبيك": هو محمد صلى الله عليه وسلم. والفطرة: دين الإسلام، كما في الحديث: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة".

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 538 ] قال القرطبي: كذا قاله الشيوخ في هذا الحديث. وفيه نظر; لأنه إذا كان قائل هذه الكلمات المقتضية للمعاني التي ذكرناها من التوحيد والتسليم والرضى إلى أن يموت على الفطرة، كما تقول: من مات وآخر كلامه: لا إله إلا الله على الفطرة وإن لم يخطر له شيء من تلك الأمور، فأين فائدة تلك الكلمات والمقامات الشريفة، ثم أجاب بأن كلا منهما وإن مات على الفطرة، فبين الفطرتين ما بين الحالتين، ففطرة الطائفة الأولى فطرة المقربين، وفطرة الثانية فطرة أصحاب اليمين.

                                                                                                                                                                                                                              عاشرها:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (فلما بلغت: "آمنت بكتابك الذي أنزلت". قلت: ورسولك. قال: "لا، ونبيك").

                                                                                                                                                                                                                              فيه دلالة لمن لم يجوز الحديث بالمعنى، وهو الصحيح من مذهب مالك، ولا شك في أن لفظة النبوة من النبأ وهو: الخبر. فالنبوة أعم والرسالة أخص; لأنها أمر زائد عليها، فلما اجتمعا في الشارع أراد أن يجمع بينهما في اللفظ; حتى يفهم منه موضوع كل واحد، وليخرج عما يشبه تكرارا بغير فائدة; لأنه إذا قال: ورسولك الذي أرسلت. فالرسالة فهمت من الأول، فالثاني كالحشو، بخلاف ما إذا قال: ونبيك الذي أرسلت، وأيضا فالملائكة يطلق عليهم اسم الرسل، قال تعالى: الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 539 ] [الحج: 75] فإذا قال ذلك زال ذلك اللبس، فالمراد هنا التصديق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - الذي جاء بالكتاب، وإن كان غيره من رسل الله أيضا واجب الإيمان بهم.

                                                                                                                                                                                                                              آخر الوضوء ومتعلقاته بحمد الله ومنه.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية