الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              2636 [ ص: 332 ] 3 - باب: الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال والنساء

                                                                                                                                                                                                                              وقال عمر - رضي الله عنه - : ارزقني شهادة في سبيلك .

                                                                                                                                                                                                                              2788 ، 2789 - حدثنا عبد الله بن يوسف ، عن مالك ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه - أنه سمعه يقول : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل على أم حرام بنت ملحان ، فتطعمه ، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت ، فدخل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأطعمته وجعلت تفلي رأسه ، فنام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم استيقظ وهو يضحك . قالت : فقلت : وما يضحكك يا رسول الله ؟ قال : " ناس من أمتي عرضوا علي ، غزاة في سبيل الله ، يركبون ثبج هذا البحر ، ملوكا على الأسرة " ، أو : "مثل الملوك على الأسرة " . شك إسحاق . قالت : فقلت : يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم . فدعا لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم وضع رأسه ، ثم استيقظ وهو يضحك فقلت وما يضحكك يا رسول الله قال : "ناس من أمتي عرضوا علي ، غزاة في سبيل الله " . كما قال في الأول . قالت : فقلت : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني منهم . قال : "أنت من الأولين " . فركبت البحر في زمان معاوية بن أبي سفيان ، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر ، فهلكت .

                                                                                                                                                                                                                              2788 - [2799 ، 2877 ، 2894 ، 6282 ، 7001 - مسلم : 1912]

                                                                                                                                                                                                                              2789 - [2800 ، 2878 ، 2895 ، 6283 ، 7002 - مسلم: 1912 - فتح: 6 \ 10]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق عن أنس دخوله - صلى الله عليه وسلم - على أم حرام ودعاءه لها بالشهادة بطوله .

                                                                                                                                                                                                                              وأثر عمر أسنده آخر الحج كما مضى ، وأخرجه ابن سعد في "طبقاته " أيضا عن محمد بن إسماعيل بن أبي فديك ، عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن حفصة أم المؤمنين أنها

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 333 ] سمعت أباها يقول : اللهم ارزقني قتلا في سبيلك ، ووفاة في بلد نبيك . قالت : قلت : وأنى ذاك ؟ قال : إن الله يأتي بأمره أنى شاء .

                                                                                                                                                                                                                              وأنا معن بن عيسى ، ثنا مالك ، عن زيد بن أسلم أن عمر كان يقول في دعائه : اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك ووفاة ببلد رسولك .

                                                                                                                                                                                                                              وأنا عبد الله بن جعفر الرقي ، ثنا عبيد الله بن عمرو ، عن عبد الملك بن عمير ، عن أبي بردة ، عن أبيه قال : رأى عوف بن مالك مناما قصه على عمر بالشام فيها : وإن عمر شهيد مستشهد ، فقال عمر : أنى لي الشهادة وأنا بين - ظهراني جزيرة العرب ، ولست أغزو والناس حولي ; ثم قال : ويلي! ويلي! يأتي الله -عز وجل - بها إن شاء الله ، زاد بعضهم : على يدي عدوك .

                                                                                                                                                                                                                              وفي "الموطأ " : اللهم لا تجعل قتلي بيد رجل صلى لك سجدة واحدة يحاجني بها يوم القيامة عندك .

                                                                                                                                                                                                                              وجاء -كما قال ابن العربي - مرفوعا : "خير الشهداء من قتله أهل ملته فيأخذ من حسناته " .

                                                                                                                                                                                                                              إذا تقرر ذلك ; فالكلام على حديث الباب من وجوه - وقد أخرجه مسلم أيضا .

                                                                                                                                                                                                                              وذكره في قتال الروم ، والرؤيا أيضا .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 334 ] وأخرجه الأربعة في الجهاد أيضا ، وقال الترمذي : حسن صحيح .

                                                                                                                                                                                                                              أحدها : هذا الحديث ذكره (أيضا ) في باب : ركوب البحر . عن (أبي ) النعمان ، عن حماد ، عن يحيى ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن أنس قال : حدثتني أم حرام فذكره ، جعله من مسند أم حرام .

                                                                                                                                                                                                                              وفي حديث عمير بن الأسود العنسي أنه أتى عبادة بن الصامت وهو نازل في ساحل حمص في بناء له ومعه أم حرام ، قال عمير : فحدثتنا أم حرام عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحوه ، وأخرجه أيضا في باب : غزو المرأة في البحر ، عن عبد الله بن محمد ، ثنا معاوية بن عمرو ، حدثنا أبو إسحاق ، عن عبد الله بن عبد الرحمن ، عن أنس به .

                                                                                                                                                                                                                              قال الجياني : كذا رويناه من جميع طرق البخاري .

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو مسعود : سقط بين أبي إسحاق الفزاري وبين أبي طوالة عبد الله بن عبد الرحمن زائدة بن قدامة .

                                                                                                                                                                                                                              قال الجياني : قابلته في "مسند أبي إسحاق الفزاري " فوجدته كما عند البخاري ، وكذا رواه ابن وضاح عن أبي مروان المصيصي ، عن أبي إسحاق .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 335 ] قال الجياني : ومع هذا فالحديث محفوظ الزائدة ، عن أبي طوالة رواه عنه حسين بن علي (الجعفي ) ومعاوية بن عمرو ، ورواه الإسماعيلي من حديث حسين بن علي ، عن زائدة .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الدارقطني : روى بشر بن عمر الزهراني هذا عن مالك ، عن إسحاق عن أنس ، عن أم حرام .

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها : في رواية في "الصحيح " تأتي قريبا : "يركبون هذا البحر الأخضر " .

                                                                                                                                                                                                                              وفي رواية : فخرجت مع زوجها غازية أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية ، فلما انصرفوا من غزاتهم قربت لها دابتها ، ولابن حبان : قبرها في جزيرة في بحر الروم يقال لها : قبرس من المسلمين إليها ثلاثة أيام . وللدارقطني رواه عنها أيضا عطاء بن يسار .

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها : قال ابن عبد البر : أم حرام هذه خالة أنس ، ولا أقف لها على اسم . وأظنها أرضعت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأم سليم أرضعته أيضا إذ لا يشك مسلم أنها كانت منه بمحرم ، وقد أخبرنا غير واحد من شيوخنا ، عن أبي

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 336 ] محمد بن فطيس
                                                                                                                                                                                                                              ، عن يحيى بن إبراهيم بن مزين قال : إنما استجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تفلي أم حرام رأسه ; لأنها كانت منه ذات محرم من قبل خالاته ; لأن أم عبد المطلب كانت من بني النجار ، وقال يونس بن عبد الأعلى : قال لنا ابن وهب : أم حرام إحدى خالات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة . قال ابن عبد البر : فأي ذلك كان فأم حرام محرم منه .

                                                                                                                                                                                                                              ونقل ابن التين ، عن ابن وهب أنها كانت خالته ولم يزد ، ثم قال : وقال جماعة غيره : كانت خالته من الرضاعة .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن الحذاء : قال لنا أبو القاسم بن الجوهري : وأم حرام هي إحدى خالاته من الرضاعة ، وكذا قاله المهلب .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن بطال : وقال غيره : إنها كانت خالة لأبيه أو لجده ; لأن أم عبد المطلب كانت من بني النجار ، وكان يأتيها زائرا لها والزيارة من صلة الرحم ، وذكر ابن العربي عن بعض العلماء أن هذا مخصوص برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو يحمل على أنه كان قبل الحجاب إلا أن (تفلي رأسه ) يضعف هذا .

                                                                                                                                                                                                                              وزعم ابن الجوزي أنه سمع بعض الحفاظ يقول : كانت أم سليم أخت آمنة من الرضاعة ، وقد أسلفنا كلام الدمياطي في دخوله على أم سليم .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : ليس في الحديث ما يدل على الخلوة بها . فلعل ذاك كان مع ولد أو خادم أو زوج أو تابع ، والعادة تقتضي المخالطة بين المخدوم وأهل الخادم لا سيما إذا كن مسنات مع ما ثبت له - صلى الله عليه وسلم - من العصمة ،

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 337 ] ولعل هذا قبل الحجاب ; فإنه كان في سنة خمس وقتل أخيها حرام الذي كان يرحمها لأجله كان سنة أربع .

                                                                                                                                                                                                                              رابعها : فيه إباحة ما قدمته المرأة إلى ضيفها من مال زوجها ; لأن الأغلب أن ما في البيت من الطعام هو للرجل .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن التين : يحتمل أن يكون ذلك من مال زوجها (لعلمها ) أنه كان يسر بذلك ، ويحتمل أن يكون من مالها . قال ابن بطال ، وقال ابن العربي : ومن المعلوم أن عبادة وكل المسلمين يسرهم أكل سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته .

                                                                                                                                                                                                                              واعترضه القرطبي فقال : حين دخوله - صلى الله عليه وسلم - على أم حرام لم تكن زوجا لعبادة كما يقتضيه ظاهر اللفظ إنما تزوجته بعد ذلك بمدة كما جاء في رواية عند مسلم : فتزوجها عبادة بعد .

                                                                                                                                                                                                                              خامسها : (تفلي ) بفتح التاء وسكون الفاء ، وقتل القمل وغيره من المؤذيات ، مستحب .

                                                                                                                                                                                                                              ونوم القائلة أصله في (معونة ) البدن لقيام الليل ، وفرحه - عليه السلام - لما عاين من ظهور أمته اتساع ملكهم حتى يغزوا في البحر وتفتح البلاد . قال أبو عمر : أراد أنه رأى الغزاة في البحر على الأسرة في الجنة ، ورؤيا الأنبياء وحي ، يشهد له قوله تعالى : على الأرائك متكئون [يس : 56] .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 338 ] وبه جزم ابن بطال حيث قال : إنما رآهم ملوكا على الأسرة في الجنة في رؤياه ، ويحتمل كما قال القرطبي : أن يكون خبرا عن حالهم في غزوهم أيضا .

                                                                                                                                                                                                                              سادسها : فيه دلالة على ركوب البحر للغزو ، قال ابن المسيب : كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يتجرون في البحر منهم طلحة وسعيد بن زيد ، وهو قول جمهور العلماء إلا عمر بن الخطاب وابن عبد العزيز فإنهما منعا من ركوبه مطلقا ، ومنهم من حمله على ركوبه لطلب الدنيا لا الآخرة ، وكره مالك ركوبه للنساء مطلقا لما يخاف عليهن من أن يطلع منهن أو يطلعن على عورة ، وخصه بعضهم بالسفن الصغار دون الكبار والحديث يخدش فيه .

                                                                                                                                                                                                                              وأما حديث ابن عمرو مرفوعا : "لا يركب البحر إلا حاجا أو معتمرا أو غازيا فإن تحت البحر نارا وتحت النار بحرا " فأخرجه أبو داود وهو ضعيف ، ولما ذكره الخلال من حديث ليث ، عن مجاهد ، عنه ; قال ابن معين : هذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منكر .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 339 ] سابعها : فيه أيضا إباحة الجهاد للنساء في البحر ، وقد ترجم له بذلك كما ستعلمه .

                                                                                                                                                                                                                              قالت أم عطية : كنا نغزوا مع رسول الله فنداوي الكلمى ونقوم على المرضى .

                                                                                                                                                                                                                              ثامنها : فيه أن الوكيل والمؤتمن إذا علم أنه يسر صاحب المنزل مما يفعله في ماله جاز له فعل ذلك ، ومعلوم أن عبادة كان يسره نزول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته ، واختلف العلماء في عطية المرأة من مال زوجها بغير إذنه ، وسيأتي إيضاحه في موضعه وسلف في الزكاة أيضا .

                                                                                                                                                                                                                              تاسعها : ثبج -بثاء مثلثة ثم باء موحدة ثم جيم - وهو الظهر ، وقال الخطابي : أعلى متن الشيء ومعظمه ، وثبج كل شيء وسطه ، ويؤيد الأول رواية : "يركبون ظهر هذا البحر " ، والثبج ما بين الكتفين ، وفي "أمالي القالي " ثبج البحر ظهره ، وقيل : معظمه ، وقيل : قوته .

                                                                                                                                                                                                                              وضحكه سرور منه مما يدخله الله على أمته من الأجر وما ينالونه من الخير كما سلف .

                                                                                                                                                                                                                              العاشر : فيه أيضا أن الجهاد تحت راية كل إمام جائر ماض إلى يوم القيامة ; لأنه رأى الآخرين ملوكا على الأسرة كما رأى الأولين ولا نهاية للآخرين إلى يوم القيامة ، قال تعالى : ثلة من الأولين وثلة من

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 340 ] الآخرين
                                                                                                                                                                                                                              [الواقعة : 39 - 40] .

                                                                                                                                                                                                                              الحادي عشر : قولها : (ادع الله أن يجعلني منهم ) فيه تمني الغزو والشهادة وهو موضع تبويب البخاري الشهادة للرجال والنساء ; وقال غيره أيضا : إن فيه تمني الشهادة وليس في الحديث ، وإنما فيه تمني الغزو لا تمني الشهادة . كذا قاله ابن التين .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن المنير : حاصل الدعاء بالشهادة أن يدعو الله أن يمكن منه كافرا يعصي الله فيقتله ، وهذا مشكل على القواعد ; إذ مقتضاها ألا يتمنى معصية الله لا له ولا لغيره ، ووجه تخريجه أن الدعاء قصدا إنما هو نيل الدرجة المرفوعة المعدة للشهداء ، وأما قتل الكافر فليس مقصود الداعي وإنما هو من ضروريات الوجود ; لأن الله تعالى أجرى حكمه ألا ينال تلك الدرجة إلا شهيد .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : قد أسلفنا أن عمر -رضي الله عنه - تمناها على يد كافر .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني عشر : قيل : إن رؤياه - عليه السلام - الثانية كانت في (شهيد ) البر فوصف حال البر والبحر بأنهم ملوك على الأسرة ، حكاه ابن التين وغيره ، قال : وقيل : يحتمل أن يكون حالهم في الدنيا كالملوك على الأسرة ولا يبالون بأحد .

                                                                                                                                                                                                                              الثالث عشر : هذا الحديث من أعلام نبوته وذلك أنه أخبر فيه

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 341 ] بضروب من الغيب قبل وقوعها
                                                                                                                                                                                                                              ، منها : جهاد أمته في البحر ، وضحكه دال على أن الله تعالى يفتح لهم ويغنمهم .

                                                                                                                                                                                                                              ومنها : الإخبار بصفة أحوالهم في جهادهم ، وهو قوله : "يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة " .

                                                                                                                                                                                                                              ومنها : قوله لأم حرام : ("أنت من الأولين " ) فكان كذلك ، غزت مع زوجها في أول غزوة كانت إلى الروم في البحر مع معاوية زمن عثمان ، سنة ثمان وعشرين وقال ابن (زيد ) : سنة سبع وعشرين ، وقيل : بل كان ذلك في خلافة معاوية على ظاهره ، والأول أشهر وهو ما ذكره أهل السير ، وفيه هلكت .

                                                                                                                                                                                                                              ومنها : الإخبار ببقاء أمته من بعده وأن تكون لهم شوكة ، وأن أم حرام تبقى إلى ذلك الوقت ، وكل ذلك لا يعلم إلا بوحي على ما أوحي به إليه في نومه .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : أن رؤيا الأنبياء وحي ، وقد سلف .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : ضحك المبشر إذا بشر مما يسره كما فعل الشارع .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : كما قال المهلب : فضل لمعاوية وأن الله قد بشر به نبيه في النوم ; لأنه أول من غزا في البحر وجعل من غزا تحت رايته من الأولين .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 342 ] وفيه : أن الموت في سبيل الله شهادة . قال ابن أبي شيبة : حدثنا يزيد بن هارون : ثنا ابن عون ، عن ابن سيرين ، عن أبي العجفاء السلمي قال : قال عمر : قال محمد - صلى الله عليه وسلم - : "من قتل في سبيل الله أو مات فهو في الجنة " .

                                                                                                                                                                                                                              الرابع عشر : فيه دلالة على أن من مات في طريق الجهاد من غير مباشرة ومشاهدة له من الأجر مثل ما للمباشر ، (وكن ) النساء إذا غزون يسقين الماء ويداوين الكلمى ويصنعن لهم طعامهم وما يصلحهم ، كما سلف .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن عبد البر : وفيه أن الموت في سبيل الله والقتل سواء أو قريب من السواء في الفضل ، قال : وإنما قلت أو قريب من السواء لاختلاف الناس في ذلك ، فمن أهل العلم من جعل الميت في سبيل الله والمقتول سواء ، واحتج بقوله تعالى :والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا [الحج : 58] الاثنين جميعا ، وبقوله : ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله [النساء : 100] ، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عتيك : "من خرج مجاهدا في سبيل الله فخر عن دابته فمات أو لدغته حية فمات أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله " .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 343 ] وفي "صحيح مسلم " من حديث أبي هريرة مرفوعا : "من قتل في سبيل الله فهو شهيد ، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد " ، ومن حديث عقبة بن عامر مرفوعا : "من صرع عن دابته في سبيل الله فمات فهو شهيد " .

                                                                                                                                                                                                                              وفي أبي داود من حديث بقية ، عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ، عن أبيه ، عن مكحول ، عن ابن غنم ، عن أبي مالك الأشعري مرفوعا : "من وقصه فرسه أو بعيره أو لدغته هامة أو مات على فراشه على أي حتف شاء الله فهو شهيد " ، واستدركه الحاكم ; وقال : صحيح على شرط مسلم .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن عبد البر : وقد ثبت عن سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل : أي الجهاد أفضل ؟ فقال : "من أهريق دمه وعقر جواده " ، فإذا كان هذا أفضل الشهداء ; اعلم أن من ليس كذلك أنه مفضول .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : وفي "صحيح الحاكم " : وقال : صحيح الإسناد من حديث

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 344 ] كعب بن عجرة قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر يوم بدر ورأى قتيلا : "يا عمر إن للشهداء سادة وأشرافا وملوكا ، وإن هذا منهم " .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الحلواني في "معرفته " : حدثنا أبو علي الحنفي ، ثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر ، عن عبد الملك بن عمير قال : قال علي بن أبي طالب : من حبسه السلطان وهو ظالم له فمات في محبسه ذلك فهو شهيد ، ومن ضربه السلطان ظالما فمات من ضربه (ذلك ) فهو شهيد وكل (موت ) يموت بها المسلم فهو شهيد غير أن الشهادة تتفاضل .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن عبد البر : وكان عمر بن الخطاب يضرب من يسمعه يقول : من قتل في سبيل الله فهو شهيد . ويقول لهم : قولوا : في الجنة ، قال أبو عمر : وذلك أن شرط الشهادة شديد فمن ذلك ألا يغل ولا يجبن ، وأن يقتل مقبلا غير مدبر ، وينفق (الكريمة ) وألا يؤذي جارا ولا رفيقا ولا ذميا ولا يخفي (غلولا ) ، ولا يسب إماما ولا يفر من الزحف .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : ومقالة عمر أخرجها الحاكم عنه ، ولفظه : لعله يكون قد أوقر دابته ذهبا أو ورقا يلتمس التجارة ، فلا تقولوا ذاكم ، ولكن قولوا كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من قتل في سبيل الله أو مات فهو في الجنة " ثم قال : حديث

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 345 ] صحيح ولم يخرجاه .

                                                                                                                                                                                                                              وعن أبي عبيدة ، عن أبيه : إياكم وهذه الشهادات أن يقول الرجل : قتل فلان شهيدا ، فإن الرجل يقاتل حمية ، ويقاتل في طلب الدنيا ، ويقاتل وهو جريء الصدر .

                                                                                                                                                                                                                              قال : واختلفوا في شهيد البحر أهو أفضل أم شهيد البر ؟ فقال : قوم : شهيد البر ، وقال قوم : شهيد البحر .

                                                                                                                                                                                                                              قال : ولا خلاف بين أهل العلم أن البحر إذا ارتج لم يجز ركوبه لأحد بوجه من الوجوه في حين ارتجاجه .

                                                                                                                                                                                                                              والذين رجحوا شهيد البحر ; احتجوا مما رواه الطبراني في أكبر معاجمه من حديث أبي أمامة مرفوعا : "يغفر لشهيد البر الذنوب كلها إلا الدين ، ويغفر لشهيد البحر الذنوب كلها والدين " .

                                                                                                                                                                                                                              ورواه ابن أبي عاصم في كتاب "الجهاد " عن الحسن بن الصباح ، ثنا يحيى بن عباد ، ثنا يحيى بن عبد العزيز ، (عن عبد العزيز ) بن يحيى ، ثنا سعيد بن صفوان ، عن عبد الله بن المغيرة ، عن عبد الله بن أبي بردة ، سمعت عبد الله بن عمرو يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الشهادة تكفر كل

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 346 ] شيء إلا الدين (والغزو ) في البحر يكفر ذلك كله "
                                                                                                                                                                                                                              .

                                                                                                                                                                                                                              ومن حديث عبد الله بن صالح ، عن يحيى بن أيوب ، عن يحيى بن سعيد ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عمرو مرفوعا : "غزوة في البحر خير من عشر غزوات في البر " . ومن حديث هلال بن ميمون ، عن أبي ثابت يعلى بن شداد بن أوس ، عن أم حرام قالت : ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزاة البحر فقال : "إن للمائد فيه أجر شهيد ، وإن للغريق أجر شهيدين " .

                                                                                                                                                                                                                              ولابن ماجه من حديث أبي أمامة مرفوعا : "لشهيد البحر مثل شهيد البر والمائد في البحر كالمتشحط في دمه في البر ، وما بين الموجتين كقاطع الدنيا في طاعة الله ، وإن الله تعالى وكل ملك الموت بقبض الأرواح إلا شهيد البحر فإنه يتولى قبض روحه ، ويغفر لشهيد البر الذنوب كلها إلا الدين ، ولشهيد البحر الذنوب كلها والدين " ، وقد سلف هذا عن الطبراني أيضا .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية