الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 120 ] باب التأويل في الحلف

تنبيه : شمل قوله ( وإن لم يكن ظالما فله تأويله ) ، أنه لو لم يكن ظالما ولا مظلوما ينفعه تأويله ، وهو صحيح ، وهو المذهب ، اختاره المصنف والشارح وغيرهما ، وهو ظاهر كلام المجد وغيره ، وقيل : لا ينفعه تأويله والحالة هذه ، حكاه الشيخ تقي الدين رحمه الله ، وقال : ظاهر كلام الإمام أحمد رحمه الله المنع من اليمين به ، ويأتي ما يشبه هذا قريبا في التعريض .

فوائد . الأولى : قوله " وإن " لم يكن ظالما فله تأويله " فعلى هذا : ينوي باللباس : الليل ، وبالفراش والبساط : الأرض ، وبالأوتاد الجبال ، وبالسقف والبناء : السماء وبالأخوة : أخوة الإسلام ، وما ذكرت فلانا : أي ما قطعت ذكره ، وما رأيته : أي ما ضربت رئته ، وبنسائي طوالق : أي نساؤه الأقارب منه ، وبجواري أحرار : سفنه ، وبما كاتبت فلانا : مكاتبة الرقيق ، وبما عرفته : جعلته عريفا ، ولا أعلمته أو أعلم السفه ، ولا سألته حاجة ، وهي الشجرة الصغيرة ، ولا أكلت له دجاجة ، وهي الكبة من الغزل ، ولا فروجة ، وهي الدراعة ، ولا في بيتي فراش ، وهي الصغار من الإبل ، ولا حصير ، وهو الحبس ، ولا بارية ، وهي السكين التي يبرى بها ، ويقول : والله ما أكلت من هذا شيئا ، ويعني به الباقي ، كذا ما أخذت منه شيئا ، قال المصنف والشارح : فهذا وأشباهه مما يسبق إلى فهم السامع خلافه إذا عناه بيمينه ، فهو تأويل ; لأنه خلاف الظاهر ، ويأتي آخر الباب زيادات على هذا .

الثانية : يجوز التعريض في المخاطبة لغير ظالم بلا حاجة ، على الصحيح من المذهب ، اختاره أكثر الأصحاب ، [ ص: 121 ] وقيل : لا يجوز ، ذكره الشيخ تقي الدين رحمه الله واختاره . لأنه تدليس كتدليس البيع ، وكره الإمام أحمد رحمه الله التدليس ، وقال : لا يعجبني ، والمنصوص : لا يجوز التعريض مع اليمين ، ويقبل في الحكم مع قرب الاحتمال من الظاهر ، ولا يقبل مع بعده ، ومع توسطه روايتان ، وأطلقهما في المحرر ، والنظم ، والزركشي والحاوي الصغير ، والفروع ، وأطلق الروايتين في المذهب ، والمستوعب ، يعني سواء قرب الاحتمال أو توسط . إحداهما : يقبل ، وجزم به أبو محمد الجوزي ، وقدمه في الرعايتين في أول باب جامع الأيمان والزبدة ، وصححه في تصحيح المحرر ، والثانية : لا يقبل .

الثالث : قوله ( فإذا أكل تمرا فحلف لتخبرني بعدد ما أكلت أو لتميزن نوى ما أكلت فإنها تفرد كل نواة وحدها وتعد من واحد إلى عدد يتحقق دخول ما أكل فيه ) ، قاله كثير من الأصحاب ، وقدمه في الرعايتين ، وقال وقيل : إن نواه وإلا حنث . واعلم أن غالب هذا الباب مبني على التخلص مما حلف عليه بالحيل ، والمذهب المنصوص عن الإمام أحمد رحمه الله : أن الحيل لا يجوز فعلها ، ولا يبر بها ، وقد نص الإمام أحمد رحمه الله على مسائل ، من ذلك : أنه إذا حلف " ليطأنها في نهار رمضان " ثم سافر ، ووطئها ، فنصه : لا يعجبني ذلك ، لأنه حيلة ، وقال أيضا : من احتال بحيلة فهو حانث ، ونقل عنه الميموني : نحن لا نرى الحيلة إلا بما يجوز ، [ ص: 122 ] فقال له : إنهم يقولون لمن قال لامرأته وهي على درجة سلم " إن صعدت أو نزلت فأنت طالق " فقالوا : تحمل عنه ، أو تنتقل عنه إلى سلم آخر ، فقال : ليس هذا حيلة ، هذا هو الحنث بعينه .

وقالوا : إذا حلف لا يطأ بساطا فوطئ على اثنين ، وإذا حلف لا يدخل دارا فحمل وأدخل إليها طائعا ، قال ابن حامد وغيره : جملة مذهبه : أنه لا يجوز التحيل في اليمين ، وأنه لا يخرج منها إلا بما ورد به سمع ، كنسيان وإكراه واستثناء ، قاله في الترغيب ، وقال : قال أصحابنا : لا يجوز التحيل لإسقاط حكم اليمين ، ولا يسقط بذلك ، ونقل المروذي { لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له } وقالت عائشة " لعن الله صاحب المرق لقد احتال حتى أكل " ونص الإمام أحمد رحمه الله فيمن حلف بالطلاق الثلاث ليطأنها اليوم ، فإذا هي حائض ، أو ليسقين ابنه خمرا لا يفعل ، وتطلق ، فهذه نصوصه ، وقول أصحابه ، وقد ذكر أبو الخطاب وجماعة كثيرة من الأصحاب جواز ذلك ، وذكروا من ذلك مسائل كثيرة مذكورة في الهداية ، والمذهب ، والمستوعب ، والخلاصة ، والرعايتين ، والحاوي الصغير ، وعيون المسائل ، وغيرهم ، وأعظمهم في ذلك : صاحب المستوعب ، والرعايتين فيهما ، وذكر المصنف هنا بعضها ، قلت : الذي نقطع به : أن ذلك ليس بمذهب للإمام أحمد رحمه الله مع هذه النصوص المصرحة بالحنث ، ولم يرد عنه ما يخالفها ، ولكن ذكر ذلك بعض الأصحاب ، فنحن نذكر شيئا من ذلك حتى لا يخلو كتابنا منه ، في آخر الباب ، تبعا للمصنف . [ ص: 123 ]

فمن ذلك : ما قاله المصنف هنا ( وإن حلف ليقعدن على بارية في بيته ، ولا يدخله بارية ، فإنه يدخله قصبا فينسجه فيه ) ، قاله جماعة ، وقدمه في الرعايتين ، والحاوي ، وقال وقيل : إن أدخل بيته قصبا لذلك فنسجت فيه : حنث ، وإن طرأ قصده وحلفه والقصب فيه فوجهان .

التالي السابق


الخدمات العلمية