الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 207 ] ( فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أن المراد بقوله : ( فارتقب ) انتظر ، ويقال ذلك في المكروه ، والمعنى : انتظر يا محمد عذابهم ، فحذف مفعول الارتقاب لدلالة ما ذكر بعده عليه وهو قوله : ( هذا عذاب أليم ) ، ويجوز أيضا أن يكون ( يوم تأتي السماء ) مفعول الارتقاب ، وقوله : ( بدخان ) فيه قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            القول الأول : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا على قومه بمكة لما كذبوه فقال : ( اللهم اجعل سنيهم كسني يوسف ) فارتفع المطر وأجدبت الأرض وأصابت قريشا شدة المجاعة حتى أكلوا العظام والكلاب والجيف ، فكان الرجل لما به من الجوع يرى بينه وبين السماء كالدخان ، وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما في بعض الروايات ومقاتل ومجاهد واختيار الفراء والزجاج ، وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه وكان ينكر أن يكون الدخان إلا هذا الذي أصابهم من شدة الجوع كالظلمة في أبصارهم حتى كانوا كأنهم يرون دخانا ، فالحاصل أن هذا الدخان هو الظلمة التي في أبصارهم من شدة الجوع ، وذكر ابن قتيبة في تفسير الدخان بهذه الحالة وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن في سنة القحط يعظم يبس الأرض بسبب انقطاع المطر ، ويرتفع المطر ويرتفع الغبار الكثير ويظلم الهواء ، وذلك يشبه الدخان ولهذا يقال لسنة المجاعة : الغبراء .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن العرب يسمون الشر الغالب بالدخان فيقول : كان بيننا أمر ارتفع له دخان ، والسبب فيه أن الإنسان إذا اشتد خوفه أو ضعفه أظلمت عيناه فيرى الدنيا كالمملوءة من الدخان .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني في الدخان : أنه دخان يظهر في العالم وهو إحدى علامات القيامة ، قالوا : فإذا حصلت هذه الحالة حصل لأهل الإيمان منه حالة تشبه الزكام ، وحصل لأهل الكفر حالة يصير لأجلها رأسه كرأس الحنيذ ، وهذا القول هو المنقول عن علي بن أبي طالب عليه السلام ، وهو قول مشهور لابن عباس ، واحتج القائلون بهذا القول بوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن قوله : ( يوم تأتي السماء بدخان ) يقتضي وجود دخان تأتي به السماء ، وما ذكرتموه من الظلمة الحاصلة في العين بسبب شدة الجوع فذاك ليس بدخان أتت به السماء ، فكان حمل لفظ الآية على هذا الوجه عدولا عن الظاهر لا لدليل منفصل ، وإنه لا يجوز .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أنه وصف ذلك الدخان بكونه مبينا ، والحالة التي ذكرتموها ليست كذلك لأنها عارضة تعرض لبعض الناس في أدمغتهم ، ومثل هذا لا يوصف بكونه دخانا مبينا .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : أنه وصف ذلك الدخان بأنه يغشى الناس ، وهذا إنما يصدق إذا وصل [ ص: 208 ] ذلك الدخان إليهم واتصل بهم ، والحال التي ذكرتموها لا توصف بأنها تغشى الناس إلا على سبيل المجاز ، وقد ذكرنا أن العدول من الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا لدليل منفصل .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( أول الآيات الدخان ، ونزول عيسى ابن مريم عليهما السلام ، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر ، قال حذيفة : يا رسول الله ، وما الدخان ؟ فتلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الآية ، وقال : دخان يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة ، أما المؤمن فيصيبه كهيئة الزكمة ، وأما الكافر فهو كالسكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره ) رواه صاحب “ الكشاف “ .

                                                                                                                                                                                                                                            وروى القاضي عن الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( باكروا بالأعمال ستا ، وذكر منها طلوع الشمس من مغربها والدجال والدخان والدابة ) ، أما القائلون بالقول الأول فلا شك أن ذلك يقتضي صرف اللفظ عن حقيقته إلى المجاز ، وذلك لا يجوز إلا عند قيام دليل يدل على أن حمله على حقيقته ممتنع ، والقوم لم يذكروا ذلك الدليل فكان المصير إلى ما ذكروه مشكلا جدا ، فإن قالوا : الدليل على أن المراد ما ذكرناه أنه تعالى حكى عنهم أنهم يقولون : ( ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون ) ، وهذا إذا حملناه على القحط الذي وقع بمكة استقام ، فإنه نقل أن القحط لما اشتد بمكة مشى إليه أبو سفيان وناشده بالله والرحم وأوعده أنه إن دعا لهم وأزال الله عنهم تلك البلية أن يؤمنوا به ، فلما أزال الله تعالى عنهم ذلك رجعوا إلى شركهم ، أما إذا حملناه على أن المراد منه ظهور علامة من علامات القيامة لم يصح ذلك ، لأن عند ظهور علامات القيامة لا يمكنهم أن يقولوا : ( ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون ) ، ولم يصح أيضا أن يقال لهم : ( إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون ) ، والجواب : لم لا يجوز أن يكون ظهور هذه العلامة جاريا مجرى ظهور سائر علامات القيامة في أنه لا يوجب انقطاع التكليف فتحدث هذه الحالة ، ثم إن الناس يخافون جدا فيتضرعون ، فإذا زالت تلك الواقعة عادوا إلى الكفر والفسق ، وإذا كان هذا محتملا فقد سقط ما قالوه ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            ولنرجع إلى التفسير فنقول : قوله تعالى : ( يوم تأتي السماء بدخان مبين ) أي ظاهر الحال لا يشك أحد في أنه دخان يغشى الناس أي يشملهم وهو في محل الجر صفة لقوله : ( بدخان ) ، وفي قوله : ( هذا عذاب أليم ) قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه منصوب المحل بفعل مضمر وهو ( يقولون ) ، ويقولون منصوب على الحال أي قائلين ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : قال الجرجاني صاحب “ النظم “ : هذا إشارة إليه وإخبار عن دنوه واقترابه كما يقال : هذا العدو فاستقبله ، والغرض منه التنبيه على القرب .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( ربنا اكشف عنا العذاب ) فإن قلنا : التقدير : يقولون ( هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب ) فالمعنى ظاهر وإن لم يضمر القول هناك أضمرناه ههنا ، والعذاب على القول الأول هو القحط الشديد ، وعلى القول الثاني : المهلك . ( إنا مؤمنون ) أي بمحمد وبالقرآن ، والمراد منه الوعد بالإيمان إن كشف عنهم العذاب .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( أنى لهم الذكرى ) يعني كيف يتذكرون وكيف يتعظون بهذه الحالة وقد جاءهم ما هو أعظم وأدخل في وجوب الطاعة وهو ما ظهر على رسول الله من المعجزات القاهرة والبينات الباهرة ؟ ( ثم تولوا عنه ) [ ص: 209 ] ولم يلتفتوا إليه ، ( وقالوا معلم مجنون ) وذلك لأن كفار مكة كان لهم في ظهور القرآن على محمد عليه الصلاة والسلام قولان : منهم من كان يقول : إن محمدا يتعلم هذه الكلمات من بعض الناس لقوله : ( إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي ) [ النحل : 103 ] ، وكقوله تعالى : ( وأعانه عليه قوم آخرون ) [ الفرقان : 4 ] ، ومنهم من كان يقول : إنه مجنون والجن يلقون عليه هذه الكلمات حال ما يعرض له الغشي .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون ) أي كما يكشف العذاب عنكم تعودون في الحال إلى ما كنتم عليه من الشرك ، والمقصود التنبيه على أنهم لا يوفون بعهدهم ، وأنهم في حال العجز يتضرعون إلى الله تعالى ، فإذا زال الخوف عادوا إلى الكفر والتقليد لمذاهب الأسلاف .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون ) ، قال صاحب “ الكشاف “ : وقرئ نبطش بضم الطاء ، وقرأ الحسن نبطش بضم النون كأنه تعالى يأمر الملائكة بأن يبطشوا بهم ، والبطش الأخذ بشدة ، وأكثر ما يكون بوقع الضرب المتتابع ثم صار بحيث يستعمل في إيصال الآلام المتتابعة ، وفي المراد بهذا اليوم قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            القول الأول : أنه يوم بدر ، وهو قول ابن مسعود وابن عباس ومجاهد ومقاتل وأبي العالية رضي الله تعالى عنهم ، قالوا : إن كفار مكة لما أزال الله تعالى عنهم القحط والجوع عادوا إلى التكذيب فانتقم الله منهم يوم بدر .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني : أنه يوم القيامة ، روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : قال ابن مسعود : البطشة الكبرى يوم بدر ، وأنا أقول : هي يوم القيامة ، وهذا القول أصح لأن يوم بدر لا يبلغ هذا المبلغ الذي يوصف بهذا الوصف العظيم ، ولأن الانتقام التام إنما يحصل يوم القيامة لقوله تعالى : ( اليوم تجزى كل نفس بما كسبت ) [ غافر : 17 ] ، ولأن هذه البطشة لما وصفت بكونها كبرى على الإطلاق وجب أن تكون أعظم أنواع البطش ، وذلك ليس إلا في القيامة ، ولفظ الانتقام في حق الله تعالى من المتشابهات كالغضب والحياء والتعجب ، والمعنى معلوم والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية