الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 346 ] 458 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدد يقدمون على الإمام في دار الحرب بعدما غنم فيها غنائم ، ولم يخرج منها ولم يقسمها ولم يبعها ، هل يشركون من معه في تلك الغنائم أم لا ؟

2906 - حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني إسماعيل بن عياش ، عن محمد بن الوليد الزبيدي ، عن ابن شهاب الزهري أن عنبسة بن سعيد أخبره أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يحدث سعيد بن العاص ، قال أبو هريرة : بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبان بن سعيد على سرية من المدينة قبل نجد ، فقدم أبان وأصحابه على النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر بعدما فتحها ، وإن حزم خيلهم لليف ، فقال أبان : اقسم لنا يا رسول الله ، قال أبو هريرة : فقلت : لا تقسم لهم شيئا يا نبي الله ، فقال أبان : أنت بها يا وبر ، تحدر علينا من رأس ضال ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اجلس يا أبان فلم يقسم لهم شيئا .

[ ص: 347 ]

2907 - حدثنا إبراهيم بن أبي داود ، قال : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، عن سعيد بن عبد العزيز ، قال : سمعت الزهري يخبر عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة أنه سمعه يحدث عن سعيد بن أبي العاص ، هكذا حدثنا ابن أبي داود ، وإنما يحدث سعيد بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبان بن سعيد بن العاص في سرية قبل نجد ، فقدم أبان وأصحابه على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما فتح خيبر ، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقسم لنا شيئا .

هكذا حدثناه ابن أبي داود أيضا ، وإنما هو أن يقسم لهم شيئا .

[ ص: 348 ] قال أبو جعفر : ففي هذا الحديث أن السائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقسم له ولأصحابه هو أبان ، وقد روي أن السائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك كان هو أبو هريرة .

2908 - كما حدثنا محمد بن علي بن زيد المكي ، قال : حدثنا محمد بن يحيى بن أبي عمر ، قال : حدثنا سفيان ، عن إسماعيل بن أمية أنه سأل الزهري ، وأنا حاضر ، قال سفيان : لم أحفظه ، قال : أخبرني عنبسة بن سعيد قال : قدم أبو هريرة وأصحابه خيبر بعدما فتحت ، والنبي صلى الله عليه وسلم بها ، فسأله أن يشركه في الغنيمة ، فتكلم بعض بني سعيد بن العاص ، فقال : يا رسول الله ، هذا قاتل ابن قوقل ، فقال : واعجبا [ ينعى ] علي قتل امرئ مسلم أكرمه الله على يدي ، ولم يهني على يديه ، ذكره سفيان عن إسماعيل بن أمية وغيره .

[ ص: 349 ]

2909 - وكما حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن يونس ، قال : حدثنا ابن أبي عمر ، قال : حدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن عنبسة بن سعيد بن العاص ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بخيبر بعدما افتتحوها ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسهم لي من الغنيمة ، فقال بعض بني سعيد بن العاص : لا تسهم لهم يا رسول الله ، فقلت : يا رسول الله ، هذا قاتل ابن قوقل ، فقال سعيد : واعجباه لوبر تدلى علينا من قدوم ضأن ، ينعى علي قتل رجل مسلم أكرمه الله على يدي ، ولم يهني على يديه . قال سفيان : لا أدري - أو لا أحفظ - أسهم له ، أو لم يسهم .

[ ص: 350 ] قال سفيان : سمعت إسماعيل بن أمية سأل عنه الزهري وأنا حاضر .

قال أبو جعفر : فوقع هذا الاختلاف في السائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما سأله إياه في هذا الحديث من هو ، - والله أعلم - أي ذلك كان .

2910 - حدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا أحمد بن إسحاق الحضرمي ، قال : حدثنا وهيب بن خالد ، قال : حدثنا خثيم بن عراك ، عن أبيه ، عن نفر من قومه أن أبا هريرة قدم المدينة هو ونفر من قومه ، فقال : قدمنا وقد خرج [ ص: 351 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر ، واستخلف على المدينة رجل من بني غفار ، يقال له : سباع بن عرفطة ، فأتيناه وهو يصلي بالناس صلاة الغداة ، فقرأ في الركعة الأولى كهيعص ، وفي الثانية ويل للمطففين ، قال أبو هريرة : فأقول وأنا في الصلاة ، ويل لأبي فلان ، له مكيالان ، إذا اكتال اكتال بالوافي ، وإذا كال كال بالناقص ، فلما فرغنا من صلاتنا أتينا سباعا ، فزودنا شيئا حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد فتح خيبر ، فكلم المسلمين فأشركنا في سهامهم .

قال : فكان هذا الحديث قد دل على أن السائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان في هذه القصة هو أبو هريرة لا أبان بن سعيد .

وفي هذا الحديث معنى من الفقه قد اختلف العلماء فيه ، فطائفة [ ص: 352 ] منهم توجب لمن كانت حاله في هذا المعنى كحال أبان ، أو أبي هريرة المذكورة في هذه الآثار الدخول في الغنيمة المغنومة قبل دخوله ؛ لأن الإمام مقيم في دار الحرب إلى ذلك الوقت ، لا يأمن من يطرأ عليه من العدو ، فيأخذ ما في يده من الغنيمة ، فحاجته إلى المدد إلى ذلك الوقت فإنهم يوجبون لهم الشركة في تلك الغنائم . ومن القائلين بذلك منهم أبو حنيفة وأصحابه رحمهم الله .

وطائفة منهم تقول : لا يشركونهم في تلك الغنائم ، وهم مالك والأوزاعي والشافعي رحمهم الله . وقد اختلف في ذلك عمر بن الخطاب ، وعمار بن ياسر رضي الله عنهما .

كما .

حدثنا سليمان بن شعيب ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن زياد ، قال : حدثنا شعبة ، عن قيس بن مسلم ، قال : سمعت طارق بن شهاب : أن أهل البصرة غزوا نهاوند ، فأمدهم أهل الكوفة فظهروا فأراد أهل البصرة ألا يقسموا لأهل الكوفة ، وكان عمار على أهل الكوفة ، فقال رجل من بني عطارد : أيها الأجدع ، تريد أن تشاركنا في غنائمنا ، فقال : خير أذني سببت ، قال : فكتب بذلك إلى عمر رضي الله عنه ، فكتب عمر رضي الله عنه : إن الغنيمة لمن شهد الوقعة .

[ ص: 353 ] قال : وأجمعت الطائفتان جميعا أن الإمام لو كان فتح تلك الدار حتى صارت كدار المسلمين ، وحتى أمن من العدو وعودهم إليها ، وقتالهم إياه على ما غنمه منهم فيها ، ثم لحقهم ذلك المدد بعد ذلك أنهم لا يشركونهم في الغنيمة التي غنموها قبل لحاقهم بهم ، وقدومهم عليه .

ثم نظرنا في السبب الذي به منع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبان أو أبا هريرة من إدخاله في تلك الغنيمة ما هو ، فاحتمل أن يكون ؛ لأن خيبر قد كانت صارت قبل لحاقهم به وقدومهم عليهم دار إسلام ، فلم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومهم عليه حاجة فلم يقسم لهم بذلك ، وقد يحتمل أن يكون لم يقسم لهم ؛ لأن خيبر كان الله عز وجل وعدها أهل الحديبية بقوله : وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها يريد أهل الحديبية فعجل لكم هذه يعني : خيبر . وقد روي ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه .

2911 - كما قد حدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا سليمان بن حرب ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن عمار بن أبي عمار ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ما شهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 354 ] مغنما إلا قسم لي إلا خيبر ، فإنها كانت لأهل الحديبية خاصة .

قال : وكان ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم القسمة في ذلك لأبان أو لأبي هريرة ؛ لأنهما لم يكونا من أهل الحديبية ، وفي سؤال أبان أو أبي هريرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقسم له ، وهو رجل من أصحابه فقيه ، وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكاره ذلك السؤال عليه ما قد دل أنه لم يسأل محالا ؛ لأنه لو كان سأل محالا ، لقال له : وكيف أسهم لك ، ولم تشهد القتال الذي كانت عنه تلك الغنيمة .

فقال قائل : وكيف تكون تلك الغنيمة لأهل الحديبية وقد أشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا هريرة فيها على ما في حديث عراك الذي رويناه ؟

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه : أنه يجوز أن يحتمل أن يكون الذي كلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك حتى سمحوا به هم أهل الحديبية .

2912 - وقد حدثنا إبراهيم بن أبي داود ، قال : حدثنا يوسف بن عدي ، عن حفص بن غياث ، عن بريد بن عبد الله ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 355 ] بعد فتح خيبر بثلاث ، فقسم لنا ، ولم يقسم لأحد لم يشهد الفتح غيرنا .

قال : فهذا أيضا محتمل أن يكون قسم لهم بكلامه أهل الحديبية فيهم حتى سمحوا بذلك لهم ، والله أعلم بحقيقة الأمر كان في ذلك ، وإياه نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية