الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 1723 ] إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا

                                                          * * *

                                                          ضاع اليهود بأمرين: أولهما أنهم كانوا لا يؤدون الأمانات، كما قال تعالى في أكثرهم: ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل [آل عمران ].

                                                          الأمر الثاني الذي أضاع بني إسرائيل في الماضي، أنهم لا يقيمون العدل إذا حكموا كما قال سبحانه: أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا [النساء]، فبالظلم ذهب ملكهم في الماضي، وسيذهب في الحاضر إن شاء الله تعالى. وإذا كانت الخيانة قد أفسدت أمرهم، والظلم قد أذهب سلطانهم، فعلى المؤمنين أن يقيموا علاقاتهم على دعائم الأمانة والعدالة; ولذا قال سبحانه:

                                                          إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها هذا أمر عام للمؤمنين جميعا، لا يختص به راع دون الرعية، ولا قوي دون ضعيف، ولا غني دون فقير.

                                                          وقد أسند الأمر إلى الله تعالى بقوله تعالت كلماته مؤكدا أمره إن الله يأمركم وذلك لتأكيد الأداء فضل تأكيد بهذا التصريح، وذلك أن الأمر من قبل الله سبحانه مضافا إليه أمر مؤكد، كما يقال لتأكيد الأمر للعبد بالطاعة: سيدك [ ص: 1724 ] يأمرك بكذا، ولله المثل الأعلى في أوامره ونواهيه، وذلك فوق التأكيد بـ(إن) في صدر النص الكريم.

                                                          والأمانة مصدر بمعنى المفعول، فالمراد بالأمانة ما يؤتمن الإنسان عليه، وقد جمعها سبحانه بقوله تعالى: (الأمانات) لتشمل كل ما يؤتمن الإنسان عليه من علم، ومال، وودائع، وأسرار، وغير ذلك مما يقع في دائرة الائتمان وتنبغي المحافظة عليه. ومعنى أدائها إلى أهلها توصيلها إلى ذويها كما هي، من غير بخس ولا تطفيف. فالعالم يؤدي أمانة العلم من غير تزيد عليها، ولا تحريف لها; لأن التزيد طمس لمعالم العلم، والتحريف تبديل للحق. فمن أوتي علما بالقرآن لا يؤوله لهوى في نفسه، بل يقدمه للناس من غير تحريف للكلم عن مواضعه.

                                                          والحكم أمانة في أعناق الحكام، عليهم أن يؤدوا الأمانة فيه بإقامة العدل، وتوخي المصلحة، وتجنب الفساد، سواء أكان فسادا معنويا، أم كان فسادا ماديا، والأول أعلى أنواع الفساد، والثاني أدناها. ومن أمانة الحكم ألا يشقوا على الرعية، وألا يفسدوا ضمائرهم، ولا يزعجوهم بالتظنن والتتبع ما داموا مؤمنين مذعنين، كما قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا [الحجرات]. وإذا كانت رعاية الأمانات وأداؤها واجبا مفروضا على الأمة كلها، حاكمها ومحكومها، وأنها متفاوتة المراتب، فإن الحاكم قد اختص بواجب آخر هو العدل، وهو من نوع الأمانة التي اختص بها، ولذا قال سبحانه بعد الأمر بأداء الأمانات:

                                                          وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل قال بعض العلماء: إن الخطاب في هذا النص موجه إلى الذين يحكمون، وهم الحكام من ولاة وقضاة وغيرهم ممن يلون الحاكم ، ولا مانع عندنا من أن يكون الخطاب موجها للأمة كلها; لأن الأمة العزيزة غير الذليلة التي تتولى أمور نفسها من غير تحكم من ملك أو طاغ قاهر، هي محكومة ومحكمة، فهي التي تختار حاكمها، وهي في هذا محكمة، [ ص: 1725 ] مطلوب منها العدل، فلا تختار لهوى، أو لعطاء ، أو لمصلحة شخصية أيا كان نوعها. وهي محكمة في حاكمها فلا تقول فيه إلا حقا، ولا تطالبه إلا بما هو حق لا جور فيه، ولا تشتط في نقده، ولا تسكت عن نصيحته. فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم".

                                                          والعدل معناه في أصل اللغة المثيل، وأطلق في مقام الحكم بمعنى أن يكون الحكم مساويا لما يستوجبه، فإذا ارتكب شخص جرما كان الحكم النازل مساويا للجرم المرتكب، وإذا كان الحكم بدين وجب أن يكون مساويا لما أخذ من غير زيادة، وهكذا. وإن العدل أنواع مختلفة، وله وسائل متباينة، وإذا كان مطلوبا في ذاته فوسائله يجب أن تتحقق فيها العدالة أيضا، وأخص أنواع العدالة عدالة القاضي في حكمه، وهي تتطلب أمورا أربعة: أولها: معرفة حكم الشرع والقانون فيما يقضى فيه. ثانيها; معرفة موضوع القضية معرفة متقص لأطرافها مستوعب لكل أجزائها. وثالثها: أن يبعد الهوى من نفسه، وأن ينظر دائما نظرا غير متحيز.

                                                          ورابعها: أن يسوي بين الخصمين في كل شيء، وقد جاء في تفسير فخر الدين الرازي عن الشافعي ما يأتي: "قال الشافعي -رضي الله عنه-: ينبغي للقاضي أن يسوي بين الخصمين في خمسة أشياء: في الدخول عليه، والجلوس بين يديه، والإقبال عليهما، والاستماع منهما، والحكم عليهما. . ولا ينبغي أن يلقن واحدا منهما حجته، ولا شاهدا شهادته; لأن ذلك يضر بأحد الخصمين. ولا يلقن المدعي الدعوى والاستخلاف، ولا يلقن المدعى عليه الإنكار والإقرار، ولا يلقن الشهود أن يشهدوا أو لا يشهدوا.

                                                          وعدالة الحاكم الأكبر تقتضي الرفق بالرعية، وألا يعمل إلا ما فيه مصلحة، وأن يمنع الرشوة، وألا يولي أحدا ممن دونه لهوى أو غرض! فلا يوسد الحكم لمن [ ص: 1726 ] دونه إلا لمن هو أهل له، ولقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا وسد الأمر لغير أهله فانتظروا الساعة".

                                                          والأمانة واجبة سواء أكان من ائتمنك عادلا أم كان جائرا، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أد الأمانة لمن ائتمنك ولا تخن من خانك". ومن المقررات في الفقه الإسلامي أن الظالم لا يظلم.

                                                          والعدل مطلوب في ذاته، يستوي في ذلك المسلم وغير المسلم، فقد قال تعالى: ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى [المائدة].

                                                          إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا الوعظ معناه التذكير بالخير والتحذير من الشر، بما يرق له القلب، ويخضع له الوجدان. و(ما) هنا إما نكرة بمعنى شيء، أو موصول، والمعنى واحد، وإن اختلف التخريج النحوي. ومؤدى النص أن الله جلت حكمته وهو العليم بكل شيء يأمركم بالأمانة والعدالة ولنعم هما شيئا خطيرا جليلا ذا أثر عظيم في حياتكم العامة والخاصة، يذكركم به ويدعوكم إليه، فأداء الأمانات وإقامة العدالة، بهما تقوم الأمم، وعليهما تبنى دعائم العزة والكرامة الإنسانية، فهما ممدوحان دائما، ولا ينتج عنهما إلا خير، ولا ينتج عن تركهما إلا شر. [ ص: 1727 ] وإن الله تعالى إذ يأمركم بذلك الخير العميم نفعه يراقبكم في تنفيذه، وإنه لن يترككم ولن يخليكم من العقاب إن لم تقوموا به، ولذلك ذيل الآية الكريمة بقوله تعالى: إن الله كان سميعا بصيرا أي إن الله تعالى يعلم أحوالكم علم من يسمع، فهو يسمع خطرات نفوسكم وحركات قلوبكم، وعلم من يبصر، فهو يرى أعمالكم. هو إذن يسمع كلمة الحق نطق بها القاضي، وكلمة الرعية يختارون بها راعيهم، بالأمانة والصدق والإخلاص، ويرى عمل الوالي إذا عدل، فيجزيه بالحسنى، وعمله إذا ظلم أو شق على رعيته أو أرهقها من أمرها عسرا، فيأخذه سبحانه بظلمه إن ظلم. ويرى سبحانه الأمة وهي تقصر في حقوقها، ولا ترعى واجب الأمانة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنع الظالم من ظلمه، فيفسد أمرها، ويتحقق فيها قول النبي الأمين: "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن قلوب بعضكم ببعض ثم تدعون فلا يستجاب لكم"!.

                                                          وإذ كان العدل، وجبت الطاعة لولي الأمر مقرونة بطاعة الله تعالى وطاعة رسوله; لأنها مشتقة من طاعتهما، ولذا قال تعالى:

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية