الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                415 [ ص: 377 ] 46 - باب

                                المساجد في البيوت

                                وصلى البراء بن عازب في مسجد في داره في جماعة

                                التالي السابق


                                مساجد البيوت ، هي أماكن الصلاة منها، وقد كان من عادة السلف أن يتخذوا في بيوتهم أماكن معدة للصلاة فيها.

                                وقد قدمنا في آخر " كتاب الحيض " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في مسجد بيته في بيت ميمونة وهي مضطجعة إلى جانبه، وهي حائض.

                                وروى جعفر بن برقان ، عن شداد مولى عياض بن عامر ، عن بلال ، أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يؤذنه بالصلاة، فوجده يتسحر في مسجد بيته.

                                خرجه الإمام أحمد .

                                وروى محمد بن سعد : أبنا قبيصة : أبنا سفيان : عن أبيه، قال: أول من اتخذ مسجدا في بيته يصلي فيه عمار بن ياسر .

                                وبإسناده: عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود ، قال: أول من بنى مسجدا يصلي فيه عمار بن ياسر .

                                وهذه المساجد لا يثبت لها شيء من أحكام المساجد المسبلة، فلا يجب صيانتها عن نجاسة ولا جنابة ولا حيض. هذا مذهب أصحابنا وأكثر الفقهاء.

                                ومنع إسحاق من جلوس الجنب فيها والحائض -: نقله عنه حرب .

                                وأجاز الاعتكاف فيها للمرأة خاصة طائفة من فقهاء الكوفيين، منهم: [ ص: 378 ] النخعي والثوري وأبو حنيفة .

                                وعنه وعن الثوري : أن المرأة لا يصح اعتكافها في غير مسجد بيتها.

                                وقول الأكثرين أصح.

                                وقد روي عن ابن عباس ، أنه سئل عن اعتكاف المرأة في مسجد بيتها ؟ فقال: بدعة، وأبغض الأعمال إلى الله البدع، لا اعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الصلاة.

                                خرجه حرب الكرماني .

                                وروى عمرو بن دينار ، عن جابر أنه سئل عن امرأة جعلت عليها أن تعتكف في مسجد بيتها؟ قال: لا يصلح، لتعتكف في مسجد ; كما قال الله: وأنتم عاكفون في المساجد

                                خرجه الأثرم .

                                وجابر هذا يحتمل أنه جابر بن عبد الله الصحابي ، ويحتمل أنه جابر بن زيد أبو الشعثاء التابعي .

                                واعتكف أبو الأحوص صاحب ابن مسعود في مسجد بيته.

                                ورخص فيه الشعبي .

                                وهؤلاء جعلوا مساجد البيوت حكمها حكم المساجد في الاعتكاف، ولو كان هذا صحيحا لاعتكف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في مساجد بيوتهن، وإنما كن يعتكفن في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.

                                وأما إقامة الجماعة للصلوات في مساجد البيوت فلا يحصل بها فضيلة الصلاة في المساجد، وإنما حكم ذلك حكم من صلى في بيته جماعة وترك المسجد.

                                قال حرب : قلت لأحمد : فالقوم نحو العشرة يكونون في الدار، [ ص: 379 ] فيجتمعون وعلى باب الدار مسجد؟ قال: يخرجون إلى المسجد، ولا يصلون في الدار، وكأنه قال: إلا أن يكون في الدار مسجد يؤذن فيه ويقام. انتهى.

                                ومتى كان المسجد يؤذن فيه ويقام ويجتمع فيه الناس عموما، فقد صار مسجدا مسبلا، وخرج عن ملك صاحبه بذلك عند الإمام أحمد ، وعامة العلماء، ولو لم ينو جعله مسجدا مؤبدا.

                                ونقل أبو طالب عن أحمد فيمن بنى مسجدا من داره، أذن فيه وصلى مع الناس، ونيته حين بناه وأخرجه أن يصلي فيه، فإذا مات رد إلى الميراث؟ فقال أحمد : إذا أذن فيه ودعا الناس إلى الصلاة فلا يرجع بشيء، ونيته ليس بشيء.

                                ووجه هذا: أن الإذن للناس في الصلاة إذا ترتب عليه صلاة الناس، فإنه يقوم مقام الوقف بالقول مع حيازة الموقوف عليه، ورفع يد الواقف، فيثبت الوقف بذلك، ونية رجوعه إلى ورثته كنية توقيت الوقف، والوقف لا يتوقت بل يتأبد، وتلغو نيته توقيته.

                                وقال حرب - أيضا - سمعت إسحاق يقول: الاعتكاف في كل مسجد خارج من البيت جائز، وإن كانت الدار عظيمة مما يجتمع أهل المحلة في مسجد تلك الدار، ويدخلها غير أهل الدار لما جعل المسجد لله جاز الاعتكاف فيه - أيضا - فأما رجل جعل مسجدا لنفسه، ولم يجعله للجماعة ترفقا بنفسه، فإنه لا يكون فيه اعتكاف، ولا فضل الجماعة - أيضا - إلا أن يكون به عذر، ولا يمكنه أن يستقل إلى المسجد، فحينئذ يكون له فضل الجماعة في ذلك المسجد، فإن اعتكف فيه كان له أجر، ولا يسمى معتكفا ; لأن الاعتكاف إنما يكون في موضع بارز.

                                وبكل حال: فينبغي أن تحترم هذه البقاع المعدة للصلاة من البيوت، وتنظف وتطهر.

                                [ ص: 380 ] قال الثوري في المساجد التي تبنى في البيوت: ترفع ولا تشرف، وتفرغ للصلاة، ولا تجعل فيها شيئا.

                                وقد روي من حديث هشام بن عروة ، عن أبيه، عن عائشة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب .

                                خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في " صحيحيهما ".

                                وخرجه الترمذي من وجه آخر مرسلا، من غير ذكر: " عائشة ".

                                وقال: هو أصح.

                                وكذلك أنكر الإمام أحمد وصله.

                                وقال الدارقطني : الصحيح المرسل.

                                وخرجه الإمام أحمد - أيضا - من رواية ابن إسحاق : حدثني عمر بن عبد الله بن الزبير ، عن عروة بن الزبير ، عمن حدثه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نصنع المساجد في دورنا، وأن نصلح صنعتها ونطهرها.

                                وخرجه أبو داود بنحو هذا اللفظ من حديث سمرة بن جندب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

                                وقد اختلف في تفسير " الدور " في هذه الأحاديث:

                                فقيل: المراد بها البيوت، وبذلك فسره الخطابي وغيره.

                                [ ص: 381 ] وخرج ابن عدي حديث عائشة ، ولفظه: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتنظيف المساجد التي في البيوت.

                                وقال أكثر المتقدمين: المراد بالدور هنا: القبائل، كقوله صلى الله عليه وسلم: " خير دور الأنصار دار بني عبد الأشهل ، ثم دار بني الحارث بن الخزرج ، ثم دار بني ساعدة ، وفي كل دور الأنصار خير ".

                                وبهذا فسر الحديث سفيان الثوري ووكيع بن الجراح وغيرهما.

                                وعلى هذا: فالمساجد المذكورة في الحديث هي المساجد المسبلة في القبائل والقرى دون مساجد الأمصار الجامعة.




                                الخدمات العلمية