الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ .

هذا أول ما أوحي به من القرآن إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - لما ثبت عن عائشة عن النبيء - صلى الله عليه وسلم - مما سيأتي قريبا .

[ ص: 435 ] وافتتاح السورة بكلمة ( اقرأ ) إيذان بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيكون قارئا ، أي : تاليا كتابا بعد أن لم يكن قد تلا كتابا ، قال تعالى : ( وما كنت تتلو من قبله من كتاب ) أي : من قبل نزول القرآن ، ولهذا قال النبيء - صلى الله عليه وسلم - لجبريل حين قال له اقرأ : ما أنا بقارئ .

وفي هذا الافتتاح براعة استهلال للقرآن .

وقوله تعالى : ( اقرأ ) أمر بالقراءة ، والقراءة نطق بكلام معين مكتوب أو محفوظ على ظهر قلب .

وتقدم في قوله تعالى : ( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ) في سورة النحل .

والأمر بالقراءة مستعمل في حقيقته من الطلب لتحصيل فعل في الحال أو الاستقبال ، فالمطلوب بقوله : ( اقرأ ) أن يفعل القراءة في الحال أو المستقبل القريب من الحال ، أي أن يقول ما سيملى عليه ، والقرينة على أنه أمر بقراءة في المستقبل القريب أنه لم يتقدم إملاء كلام عليه محفوظ فتطلب منه قراءته ، ولا سلمت إليه صحيفة فتطلب منه قراءتها ، فهو كما يقول المعلم للتلميذ : اكتب ، فيتأهب لكتابة ما سيمليه عليه .

وفي حديث الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قولها فيه : " حتى جاءه الحق وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فقال : اقرأ . قال فقلت : ما أنا بقارئ . فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) إلى ( ما لم يعلم ) .

فهذا الحديث روته عائشة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ لقولها : قال : " فقلت : ما أنا بقارئ . وجميع ما ذكرته فيه مما روته عنه لا محالة وقد قالت فيه : " فرجع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجف فؤاده " أي : فرجع بالآيات التي أمليت عليه ، أي : رجع متلبسا بها ، أي : بوعيها .

[ ص: 436 ] وهو يدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلقى ما أوحي إليه وقرأه حينئذ ، ويزيد ذلك إيضاحا قولها في الحديث : " فانطلقت به خديجة إلى ورقة بن نوفل ، فقالت له خديجة : يا ابن عم ، اسمع من ابن أخيك . أي : اسمع القول الذي أوحي إليه . وهذا ينبئ بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما قيل له بعد الغطة الثالثة ( اقرأ باسم ربك ) الآيات الخمس قد قرأها ساعتئذ كما أمره الله ورجع من غار حراء إلى بيته يقرؤها ، وعلى هذا الوجه يكون قول الملك له في المرات الثلاث ( اقرأ ) إعادة للفظ المنزل من الله إعادة تكرير للاستئناس بالقراءة التي لم يتعلمها من قبل .

ولم يذكر لفعل ( اقرأ ) مفعول ، إما لأنه نزل منزلة اللازم وأن المقصود أوجد القراءة ، وإما لظهور المقروء من المقام ، وتقديره : اقرأ ما سنلقيه إليك من القرآن .

وقوله : ( باسم ربك ) فيه وجوه .

أولها : أن يكون افتتاح كلام بعد جملة ( اقرأ ) وهو أول المقروء ، أي : قل : باسم الله ، فتكون الباء للاستعانة ، فيجوز تعلقه بمحذوف تقديره : ابتدئ . ويجوز أن يتعلق بـ ( اقرأ ) الثاني فيكون تقديمه على معموله للاهتمام بشأن اسم الله . ومعنى الاستعانة باسم الله ذكر اسمه عند هذه القراءة ، وإقحام كلمة ( اسم ) ؛ لأن الاستعانة بذكر اسمه تعالى لا بذاته كما تقدم في الكلام على البسملة ، وهذا الوجه يقتضي أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - قال : " باسم الله " حين تلقى هذه الجملة .

الثاني : أن تكون الباء للمصاحبة ويكون المجرور في موضع الحال من ضمير ( اقرأ ) الثاني مقدما على عامله للاختصاص ، أي : اقرأ ما سيوحى إليك مصاحبا قراءتك اسم ربك . فالمصاحبة مصاحبة الفهم والملاحظة لجلاله ، ويكون هذا إثباتا لوحدانية الله بالإلهية وإبطالا للنداء باسم الأصنام الذي كان يفعله المشركون يقولون : باسم اللات ، باسم العزى ، كما تقدم في البسملة . فهذا أول ما جاء من قواعد الإسلام قد افتتح به أول الوحي .

الثالث : أن تكون الباء بمعنى ( على ) كقوله تعالى : ( من إن تأمنه بقنطار ) ، أي : على قنطار . والمعنى : اقرأ على اسم ربك ، أي : على إذنه ، أي أن الملك جاءك على اسم ربك ، أي : مرسلا من ربك ، فذكر ( اسم ) على هذا متعين .

[ ص: 437 ] وعدل عن اسم الله العلم إلى صفة ( ربك ) ؛ لما يؤذن وصف الرب من الرأفة بالمربوب والعناية به ، مع ما يتأتى بذكره من إضافته إلى ضمير النبيء - صلى الله عليه وسلم - إضافة مؤذنة بأنه المنفرد بربوبيته عنده ردا على الذين جعلوا لأنفسهم أربابا من دون الله فكانت هذه الآية أصلا للتوحيد في الإسلام .

وجيء في وصف الرب بطريق الموصول ( الذي خلق ) ولأن في ذلك استدلالا على انفراد الله بالإلهية ; لأن هذا القرآن سيتلى على المشركين لما تفيده الموصولية من الإيماء إلى علة الخبر ، وإذا كانت علة الإقبال على ذكر اسم الرب هي أنه خالق دل ذلك على بطلان الإقبال على ذكر غيره الذي ليس بخالق ، فالمشركون كانوا يقبلون على اسم اللات واسم العزى ، وكون الله هو الخالق يعترفون به ، قال تعالى : ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ) فلما كان المقام مقام ابتداء الإسلام دين التوحيد كان مقتضيا لذكر أدل الأوصاف على وحدانيته .

وجملة ( خلق الإنسان من علق ) يجوز أن تكون بدلا من جملة ( الذي خلق ) بدل مفصل من مجمل إن لم يقدر له مفعول ، أو بدل بعض إن قدر له مفعول عام ، وسلك طريق الإبدال لما فيه من الإجمال ابتداء لإقامة الاستدلال على افتقار المخلوقات كلها إليه تعالى ; لأن المقام مقام الشروع في تأسيس ملة الإسلام . ففي الإجمال إحضار للدليل مع الاختصار مع ما فيه من إفادة التعميم ثم يكون التفصيل بعد ذلك لزيادة تقرير الدليل .

ويجوز أن تكون بيانا من ( الذي خلق ) إذا قدر لفعل ( خلق ) الأول مفعول دل عليه بيانه فيكون تقدير الكلام : اقرأ باسم ربك الذي خلق الإنسان من علق .

وعدم ذكر مفعول لفعل ( خلق ) يجوز أن يكون لتنزيل الفعل منزلة اللازم ، أي : الذي هو الخالق ، وأن يكون حذف المفعول لإرادة العموم ، أي : خلق كل المخلوقات ، وأن يكون تقديره : الذي خلق الإنسان ، اعتمادا على ما يرد بعده من قوله : ( خلق الإنسان ) فهذه معان في الآية .

[ ص: 438 ] وخص خلق الإنسان بالذكر من بين بقية المخلوقات ; لأنه المطرد في مقام الاستدلال إذ لا يغفل أحد من الناس عن نفسه ولا يخلو من أن يخطر له خاطر البحث عن الذي خلقه وأوجده ؛ لذلك قال تعالى : ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) .

وفيه تعريض بتحميق المشركين الذين ضلوا عن توحيد الله تعالى مع أن دليل الوحدانية قائم في أنفسهم .

وفي قوله : ( من علق ) إشارة إلى ما ينطوي في أصل خلق الإنسان من بديع الأطوار والصفات التي جعلته سلطان هذا العالم الأرضي .

والعلق : اسم جمع علقة وهي قطعة قدر الأنملة من الدم الغليظ الجامد الباقي رطبا لم يجف ، سمي بذلك تشبيها لها بدودة صغيرة تسمى علقة ، وهي حمراء داكنة تكون في المياه الحلوة ، تمتص الدم من الحيوان إذا علق خرطومها بجلده ، وقد تدخل إلى فم الدابة وخاصة الخيل والبغال فتعلق بلهاته ولا يتفطن لها .

ومعنى ( خلق الإنسان من علق ) أن نطفة الذكر ونطفة المرأة بعد الاختلاط ومضي مدة كافية تصيران علقة ، فإذا صارت علقة فقد أخذت في أطوار التكون ، فجعلت العلقة مبدأ الخلق ولم تجعل النطفة مبدأ الخلق ; لأن النطفة اشتهرت في ماء الرجل ، فلو لم تخالطه نطفة المرأة لم تصر العلقة فلا يتخلق الجنين ، وفيه إشارة إلى أن خلق الإنسان من علق ثم مصيره إلى كمال أشده هو خلق ينطوي على قوى كامنة وقابليات عظيمة أقصاها قابلية العلم والكتابة .

ومن إعجاز القرآن العلمي ذكر العلقة ; لأن الثابت في العلم الآن أن الإنسان يتخلق من بويضة دقيقة جدا لا ترى إلا بالمرآة المكبرة أضعافا تكون في مبدأ ظهورها كروية الشكل سابحة في دم حيض المرأة فلا تقبل التخلق حتى تخالطها نطفة الرجل فتمتزج معها فتأخذ في التخلق إذا لم يعقها عائق كما قال تعالى : ( مخلقة وغير مخلقة ) فإذا أخذت في التخلق والنمو امتد تكورها قليلا فشابهت العلقة التي في الماء مشابهة تامة في دقة الجسم وتلونها بلون الدم الذي هي سابحة فيه وفي كونها سابحة في سائل كما تسبح العلقة ، وقد تقدم هذا في سورة غافر وأشرت إليه في المقدمة العاشرة .

[ ص: 439 ] ومعنى حرف ( من ) الابتداء .

وفعل ( اقرأ ) الثاني تأكيد لـ ( اقرأ ) الأول للاهتمام بهذا الأمر .

التالي السابق


الخدمات العلمية