الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 135 ] باب ) [ ص: 136 ] الصلح على غير المدعى بيع ، [ ص: 137 ] أو إجارة ، وعلى بعضه : هبة

[ ص: 135 ]

التالي السابق


[ ص: 135 ] باب ) في بيان أقسام الصلح وأحكامها وما يناسبها

وهو لغة قطع المنازعة وأصله الكمال ، يقال صلح الشيء بفتح اللام وضمها إذا كمل وشرعا قال ابن عرفة انتقال عن حق أو دعوى بعوض لرفع نزاع أو خوف وقوعه . وقول ابن رشد هو قبض شيء عن عوض يشمل محض البيع . وقول عياض هو معاوضة عن دعوى يخرج عنه صلح الإقرار . وقول ابن الحاجب تابعا لابن شاس الصلح معاوضة كالبيع وإبراء وإسقاط تقسيم له لا تعريف فلا يتوهم نقضه بمحض البيع وهبة كل الدين أو بعضه لعدم اندراجهما تحت مورد التقسيم . الحط قد يقال حده غير جامع لأنه لا يشمل الصلح على بعض الحق المدعى به . طفي قد يقال لا نسلم أن الصلح هو الانتقال ، بل هو المعاوضة والانتقال مفرع عنها معلول لها كما أن الانتقال في البيع مفرع عنه ومعلول له ، والصلح بيع وإجارة وهبة فيفسر بالمعاوضة كالبيع والإجارة ، فحد عياض هو الصواب ويجاب عن خروج صلح الإقرار بأن الغالب في الصلح كونه عن إنكار فهو حد للغالب . البناني وفيه نظر والظاهر أن عقد المعاوضة والانتقال بعوض معناهما واحد .

( فوائد ) الأولى : في المقدمات روي { أن كعب بن مالك تقاضى من ابن أبي حدرد رضي الله تعالى عنهما دينا له في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيته ، فخرج حتى كشف سجف حجرته فنادى كعبا فقال يا كعب فقال لبيك يا رسول الله فأشار بيده أن ضع الشطر فقال كعب قد فعلت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قم فاقضه } .

الثانية : في التوضيح روى الترمذي وحسنه أنه صلى الله عليه وسلم قال { الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما } . [ ص: 136 ]

الثالثة : ابن عرفة هو أي الصلح من حيث ذاته مندوب إليه ، وقد يعرض وجوبه عند تعيين مصلحته وحرمته وكراهته لاستلزامه مفسدة واجبة الدرء أو راجحته كما مر في النكاح للخمي وغيره . ابن رشد لا بأس بندب القاضي الخصمين إليه ما لم يتبين له الحق لأحدهما لقول عمر لأبي موسى رضي الله تعالى عنهما واحرص على الصلح ما لم يتبين لك فصل القضاء . وقيل في بعض المذاكرات لا بأس به بعد التبين إن كان لرفق بالضعيف منهما ، كالندب لصدقه عليه ، ورد بأنه يوهم ثبوت الحق على من له الحق أو سقوطه له ، بخلاف الصدقة . ابن رشد إن أباه أحدهما فلا يلح عليه إلحاحا يوهم الإلزام .

الرابعة : ابن عرفة قسموه إلى صلح على إقرار وصلح على إنكار ، فقول عياض حكم السكوت حكم الإقرار لتكون القسمة حقيقية بين الشيء ونقيضه أو المساوي لنقيضه ا هـ . طفي الشيء هو الإقرار ونقيضه لا إقراره ومساويه الإنكار والسكوت ، وإن شئت قلت الشيء هو الإنكار ونقيضه لا إنكار ومساويه الإقرار والسكوت والمعنى واحد ، فلا واسطة بين الإقرار ولا إقرار ولا بين الإنكار ولا إنكار فافهم .

( الصلح ) أي على إقرار بدليل ذكره الصلح على سكوت والصلح على إنكار بعد بيع وإجارة وهبة ، وبين هذه الأقسام الثلاثة فقال ( على ) أخذ شيء ( غير المدعى ) بضم الميم وفتح الدال مشددة والعين ، وصلته محذوفة أي به ( بيع ) لذات المدعى به بالمأخوذ إن كان ذاتا فيشترط فيه شروط البيع وانتفاء موانعه كدعواه بعرض أو حيوان أو طعام أو عقار ، فيقر به المدعى عليه ثم يصالحه بدنانير أو دراهم أو بهما نقدا أو بعرض أو طعام مخالف للمصالح عنه ، فقد باع المدعي المدعى به بنقد أو عرض مخالف له فجاز لوجود شروطه وانتفاء موانعه ، فإن شرط عليه شرطا يناقض المقصود كأن لا يبيع المصالح به أو لا يلبسه أو لا يركبه أو لا يطأ الجارية أو صالحه بمجهول أو لأجل مجهول أو عن دراهم بدينار مؤخرا ، وعكسه أو عن طعام معاوضة فسد لانتفاء الشرط أو وجود المانع . [ ص: 137 ]

وذكر القسم الثاني عاطفا له بأو التي للتقسيم فقال ( أو إجارة ) للمأخوذ صلحا إن كان منافع ، فإن كان المدعى به معينا جاز صلحه عنه بمنافع معينة أو مضمونة لعدم فسخ دين في دين ، وغايته إجارة المنفعة بمعين وإن كان غير معين بأن كان مضمونا في ذمة المدعى عليه فلا يجوز صلحه عنه بمنفعة معينة ولا مضمونة لأنه فسخ دين في دين ، فصورة الإجارة الجائزة أن يدعي عليه بمعين كثوب معين أو حيوان معين أو طعام كذلك فيقر به ثم يصالحه بمنفعة شيء معين ، أو مضمون من عقار أو حيوان أو عرض وإن ادعى عليه بمنفعة معين أو مضمون لم يستوفها جاز الصلح عنها بنقد معجل أو حيوان كذلك أو طعام كذلك ، وهو إجارة للمصالح عنه لا بمؤخر لأنه فسخ دين في دين .

( و ) الصلح ( على بعضه ) أي المدعى به وترك باقيه ( هبة ) للبعض المتروك فيشترط قبوله قبل موت واهبه وجنونه ومرضه المتصلين بموته وقبل فلسه . ابن عاشر تظهر فائدة هذا الاشتراط والله أعلم فيما إذا قال المدعي بعد إقرار المدعى عليه مع لدده أو إنكاره أو سكوته ادفع لي خمسين وأسقط لك الباقي فلم يجبه المدعى عليه فلا ينعقد الصلح ، فلو رضي المدعى عليه بعد لزم الصلح واختلف إذا لم يرض حتى مات المدعي .

البناني قسم الصلح ثلاثة أقسام : بيع وإجارة وهبة لأن المصالح به إن كان ذاتا فهو بيع ، وإن كان منفعة فهي إجارة ، وإن كان ببعض المدعى به فهي هبة ، وتجري هذه الأقسام في الصلح على إقرار وعلى إنكار وعلى سكوت ، أما في الإقرار فظاهر ، وأما في الإنكار فبالنظر إلى المدعى به ، وأما السكوت فهو راجع لأحدهما ، وأما قول المصنف الآتي والسكوت أو الإنكار فإنما خصهما بالذكر لانفرادهما عن صلح الإقرار بشروط ثلاثة ذكرها المصنف ثم المصالح به إن كان منافع اشترط كون المدعى به معينا حاضرا ككتاب مثلا يدعيه على زيد وهو بيده فيصالحه بسكنى دار أو خدمة عبد ، [ ص: 138 ] فلو كان المدعى به عينا في الذمة كدراهم فلا يجوز الصلح عنها بمنافع لأنه حينئذ فسخ دين في دين والله أعلم .




الخدمات العلمية