الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
وقال «أبو بكر محمد بن موهب المالكي» في شرح رسالة «أبي محمد بن أبي زيد»: «وأما قوله: «إنه فوق عرشه المجيد بذاته» فإن معنى: "فوق وعلى" عند جميع العرب واحد، وفي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تصديق ذلك، قول الله عز وجل: ثم استوى على العرش [الأعراف: 54] وقال: الرحمن على العرش استوى [طه: 5] وقال في وصف الملائكة: يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون [النحل: 50] وقال: إليه يصعد الكلم الطيب [فاطر: 10] ونحو ذلك كثير، وقال النبي صلى الله عليه وسلم للأعجمية التي أراد سيدها أن يعتقها: «أين ربك؟ فأشارت إلى السماء» ووصف النبي صلى الله عليه وسلم أنه عرج به من الأرض إلى السماء، من سماء إلى سماء، إلى سدرة [ ص: 176 ] المنتهى، وإلى ما فوقها، حتى قال: لقد سمعت صريف القلم، وأنه وصف من فرض الصلوات أنه كل ما هبط من مكانه، فلقي موسى في بعض السموات، فأمره بالتخفيف عن أمته، عاد يصعد ثم سأل إلى أن انتهى إلى خمس صلوات في اليوم والليلة. [ ص: 177 ]

وقد تأتي لفظة «في» في لغة العرب بمعنى: فوق، وعلى ذلك قول الله عز وجل: فامشوا في مناكبها [الملك: 15] يريد: عليها وفوقها. وكذلك قوله فيما وصف عن فرعون أنه قال في قصة السحرة: ولأصلبنكم في جذوع النخل [طه: 71] يريد عليها، قال الله عز وجل: أأمنتم من في السماء [الملك: 16] الآيات كلها، قال أهل التأويل العالمون بلغة العرب: يريد فوقها، وهو قول مالك مما فهمه عن جماعة من أدرك من التابعين، مما فهموه عن الصحابة، مما فهموه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن الله في السماء، يعني: فوقها وعليها. ولذلك قال الشيخ أبو محمد: «إنه فوق عرشه المجيد» ، ثم بين أن علوه على عرشه وفوقه، إنما هو بذاته، لأنه بائن عن جميع خلقه [ ص: 178 ] بلا كيف، وهو في كل مكان من الأمكنة المخلوقة بعلمه لا بذاته، إذ لا تحويه الأماكن، لأنه أعظم منها، وقد كان ولا مكان، ولم يحل بصفاته عما كان، إذ لا تجري عليه الأحوال، لكن علوه في استوائه على عرشه، هو عندنا بخلاف ما كان قبل أن يستوي على العرش لأنه قال: ثم استوى على العرش [الأعراف: 54] و«ثم» أبدا لا تكون أبدا إلا لاستئناف فعل يصير بينه وبين ما قبله فسحة، فهو سبحانه وإن كان لا يزول ولا يحول فقد يزيل المخلوقات دونه، ويحيلها كيف يشاء، فصار بكونه على عرشه في وصفنا بخلاف ما كان قبل ذلك، هذا حكم وصفنا لاستوائه على عرشه سبحانه، ففرق بين ذاته وعلمه من جملة الحكم والمعنى، إذ لا تخلو الأماكن من علمه، وهو بائن عن جميعها بذاته، وإن كان محيطا بها جميعا عظمة وجلالا».

إلى أن قال: «وقوله: على العرش استوى [طه: 5] فإنما معناه عند أهل السنة على غير الاستيلاء والقهر والغلبة والملك الذي ظنت المعتزلة، ومن قال بقولهم: إنه معنى الاستواء، وبعضهم يقول: إنه على المجاز دون الحقيقة، ويبين [ ص: 179 ] سوء تأويلهم في استوائه على عرشه، على غير ما تأولوه من الاستيلاء وغيره، ما قد علمه أهل المعقول، بأنه لم يزل مستويا على جميع مخلوقاته بعد اختراعه لها، وكان العرش وغيره في ذلك سواء، فلا معنى لتأويلهم بإفراد العرش بالاستواء، الذي هو في تأويلهم الفاسد استيلاء وملك وقهر وغلبة».

قال: «ويبين أيضا أنه على الحقيقة بقوله عز وجل: ومن أصدق من الله قيلا [النساء: 122] فلما أبصر المنصفون إفراد ذكره بالاستواء على عرشه، بعد خلق سمواته وأرضه، وتخصيصه بصفة الاستواء، علموا أن الاستواء هاهنا على غير الاستيلاء ونحوه، فأقروا بوصفه بالاستواء على عرشه، وأنه على الحقيقة لا على المجاز؛ لأنه الصادق في قيله، ووقفوا عن تكييف ذلك وتمثيله، إذ ليس كمثله شيء من الأشياء».

التالي السابق


الخدمات العلمية