الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            لما بين الله حال المنافق والكافر والمهتدي المؤمن عند استماع الآيات العلمية من التوحيد والحشر وغيرهما بقوله : ( ومنهم من يستمع إليك ) [الأنعام : 25] وقوله : ( والذين اهتدوا زادهم هدى ) بين حالهم في الآيات العملية ، فإن المؤمن كان ينتظر ورودها ويطلب تنزيلها وإذا تأخر عنه التكليف كان يقول : هلا أمرت بشيء من العبادة خوفا من أن لا يؤهل لها ، والمنافق إذا نزلت السورة أو الآية وفيها تكليف شق عليه ، ليعلم تباين الفريقين في العلم والعمل ، حيث لا يفهم المنافق العلم ولا يريد العمل ، والمؤمن يعلم ويحب العمل ، وقولهم : ( لولا نزلت سورة ) المراد منه سورة فيها تكليف يمتحن المؤمن والمنافق .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم إنه تعالى أنزل سورة فيها القتال فإنه أشق تكليف وقوله : ( سورة محكمة ) فيها وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : سورة لم تنسخ ثانيها : سورة فيها ألفاظ أريدت حقائقها بخلاف قوله : ( الرحمن على العرش استوى ) [طه : 5] وقوله : ( في جنب الله ) [الزمر : 56] فإن قوله تعالى : ( فضرب الرقاب ) أراد القتل وهو أبلغ من قوله :" اقتلوهم " وقوله : ( واقتلوهم حيث ثقفتموهم ) [البقرة : 191] صريح وكذلك غير هذا من آيات القتال وعلى الوجهين فقوله : ( محكمة ) فيها فائدة زائدة من حيث إنهم لا يمكنهم أن يقولوا المراد غير ما يظهر منه ، أو يقولوا هذه آية وقد نسخت فلا نقاتل ، وقوله : ( رأيت الذين في قلوبهم مرض ) أي المنافقين ( ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت ) لأن عند التكليف بالقتال لا يبقى لنفاقهم فائدة ، فإنهم قبل القتال كانوا يترددون إلى القبيلتين وعند الأمر بالقتال لم يبق لهم إمكان ذلك : ( فأولى لهم ) دعاء كقول القائل فويل لهم ، ويحتمل [ ص: 55 ] أن يكون هو خبر لمبتدأ محذوف سبق ذكره وهو الموت كأن الله تعالى لما قال : ( نظر المغشي عليه من الموت ) قال : فالموت أولى لهم ؛ لأن الحياة التي لا في طاعة الله ورسوله الموت خير منها ، وقال الواحدي : يجوز أن يكون المعنى فأولى لهم طاعة ، أي الطاعة أولى لهم .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( طاعة وقول معروف ) .

                                                                                                                                                                                                                                            كلام مستأنف محذوف الخبر تقديره خير لهم أي أحسن وأمثل ، لا يقال : طاعة نكرة لا تصلح للابتداء ، لأنا نقول : هي موصوفة يدل عليه قوله : ( وقول معروف ) فإنه موصوف فكأنه تعالى قال : ( طاعة ) مخلصة : ( وقول معروف ) ويدل عليه قراءة أبي " يقولون طاعة وقول معروف " .

                                                                                                                                                                                                                                            وقوله : ( فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            جوابه محذوف تقديره : ( فإذا عزم الأمر ) خالفوا وتخلفوا ، وهو مناسب لمعنى قراءة أبي كأنه يقول : في أول الأمر قالوا : سمعا وطاعة ، وعند آخر الأمر خالفوا وأخلفوا موعدهم ، ونسب العزم إلى الأمر ، والعزم لصاحب الأمر معناه : فإذا عزم صاحب الأمر . هذا قول الزمخشري ، ويحتمل أن يقال : هو مجاز ، كقولنا : جاء الأمر وولى فإن الأمر في الأول يتوقع أن لا يقع وعند إظلاله وعجز الكاره عن إبطاله فهو واقع فقال : ( عزم ) والوجهان متقاربان ، وقوله تعالى : ( فلو صدقوا ) فيه وجهان على قولنا المراد من قوله : طاعة أنهم قالوا : طاعة ، فمعناه لو صدقوا في ذلك القول وأطاعوا : ( لكان خيرا لهم ) وعلى قولنا : ( طاعة وقول معروف ) خير لهم وأحسن ، فمعناه : ( فلو صدقوا ) في إيمانهم واتباعهم الرسول : ( لكان خيرا لهم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            ( فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            وهذه الآية فيها إشارة إلى فساد قول قالوه ، وهو أنهم كانوا يقولون : كيف نقاتل والقتل إفساد والعرب من ذوي أرحامنا وقبائلنا ؟ فقال تعالى : ( إن توليتم ) لا يقع منكم إلا الفساد في الأرض فإنكم تقتلون من تقدرون عليه وتنهبونه والقتال واقع بينكم ، أليس قتلكم البنات إفسادا وقطعا للرحم ؟ فلا يصح تعللكم بذلك مع أنه خلاف ما أمر الله وهذا طاعة وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : في استعمال عسى ثلاثة مذاهب أحدها : الإتيان بها على صورة فعل ماض معه فاعل ، تقول : عسى زيد وعسينا وعسوا وعسيت وعسيتما وعسيتم وعست وعستا .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن يؤتى بها على صورة فعل معه مفعول تقول : عساه وعساهما وعساك وعساكما وعساي وعسانا .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : الإتيان بها من غير أن يقرن بها شيء تقول : عسى زيد يخرج ، وعسى أنت تخرج ، وعسى أنا أخرج والكل له وجه ، وما عليه كلام الله أوجه ، وذلك لأن عسى من الأفعال الجامدة ، واقتران الفاعل بالفعل أولى من اقتران المفعول لأن الفاعل كالجزء من الفعل ؛ ولهذا لم يجز فيه أربع متحركات في مثل قول القائل نصرت ، وجوز في مثل قولهم نصرك ولأن كل فعل له فاعل سواء كان لازما أو متعديا ولا كذلك المفعول به ، فعسيت وعساك كعصيت وعصاك في اقتران الفاعل بالفعل والمفعول به ، وأما قول من قال : عسى أنت تقوم ، وعسى أن أقوم فدون ما ذكرنا للتطويل الذي فيه .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : الاستفهام للتقرير المؤكد ، فإنه لو قال على سبيل الإخبار : ( عسيتم إن توليتم ) لكان للمخاطب أن ينكره ، فإذا قال بصيغة الاستفهام كأنه يقول أنا أسألك عن هذا وأنت لا تقدر أن تجيب إلا بلا أو [ ص: 56 ] نعم ، فهو مقرر عندك وعندي .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : عسى للتوقيع والله تعالى عالم بكل شيء فنقول فيه ما قلنا في لعل ، وفي قوله : ( لنبلوهم ) [الكهف : 7] إن بعض الناس قال : يفعل بكم فعل المترجي والمبتلي والمتوقع ، وقال آخرون : كل من ينظر إليهم يتوقع منهم ذلك ونحن قلنا : محمول على الحقيقة وذلك لأن الفعل إذا كان ممكنا في نفسه فالنظر إليه غير مستلزم لأمر ، وإنما الأمر يجوز أن يحصل منه تارة ولا يحصل منه أخرى فيكون الفعل لذلك الأمر المطلوب على سبيل الترجي سواء كان الفاعل يعلم حصول الأمر منه وسواء إن لم يكن يعلم ، مثاله من نصب شبكة لاصطياد الصيد يقال : هو متوقع لذلك فإن حصل له العلم بوقوعه فيه بإخبار صادق أنه سيقع فيه أو بطريق أخرى لا يخرج عن التوقع ، غاية ما في الباب أن في الشاهد لم يحصل لنا العلم فيما نتوقعه فيظن أن عدم العلم لازم للمتوقع ، وليس كذلك ، بل المتوقع هو المنتظر لأمر ليس بواجب الوقوع نظرا لذلك الأمر فحسب ، سواء كان له به علم أو لم يكن ، وقوله : ( إن توليتم ) فيه وجهان : أحدهما : أنه من الولاية يعني إن أخذتم الولاية وصار الناس بأمركم أفسدتم وقطعتم الأرحام .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيهما : هو من التولي الذي هو الإعراض وهذا مناسب لما ذكرنا ، أي كنتم تتركون القتال وتقولون فيه الإفساد وقطع الأرحام لكون الكفار أقاربنا فلا يقع منكم إلا ذلك حيث تقاتلون على أدنى شيء كما كان عادة العرب .

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : يؤكده قراءة علي عليه السلام توليتم ، أي إن تولاكم ولاة ظلمة جفاة غشمة ومشيتم تحت لوائهم وأفسدتم بإفسادهم وقطعتم أرحامكم ، والنبي عليه السلام لا يأمركم إلا بالإصلاح وصلة الأرحام ، فلم تتقاعدون عن القتال وتتباعدون في الضلال .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية