الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه ) وفيه لطيفة ، وهي أن الله تعالى ذكر أمرين : ضرب الوجه ، وضرب الأدبار ، وذكر بعدهما أمرين آخرين : اتباع ما أسخط الله ، وكراهة رضوانه ، فكأنه تعالى قابل الأمرين فقال : "يضربون وجوههم" حيث أقبلوا على سخط الله ، فإن المتسع للشيء متوجه إليه ، ويضربون أدبارهم لأنهم تولوا عما فيه رضا الله ، فإن الكاره للشيء يتولى عنه ، وما أسخط الله يحتمل وجوها الأول : إنكار الرسول عليه الصلاة والسلام ، ورضوانه الإقرار به والإسلام .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : الكفر هو ما أسخط الله ، والإيمان ما يرضيه يدل عليه قوله تعالى : ( إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ) [الزمر : 7] وقال تعالى : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ) [ ص: 60 ] [البينة : 7] إلى أن قال : ( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) [البينة : 8] .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : ما أسخط الله تسويل الشيطان ، ورضوان الله التعويل على البرهان والقرآن ، فإن قيل : هم ما كانوا يكرهون رضوان الله ، بل كانوا يقولون : إن ما نحن عليه فيه رضوان الله ، ولا نطلب إلا رضاء الله ، وكيف لا والمشركون بإشراكهم كانوا يقولون : إنا نطلب رضاء الله . كما قالوا : ( ليقربونا إلى الله زلفى ) [الزمر : 3] وقالوا : ( فيشفعوا لنا ) [الأعراف : 53] فنقول : معناه كرهوا ما فيه رضاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            وفيه لطيفة وهي أن الله تعالى قال : ( ما أسخط الله ) ولم يقل : ما أرضى الله وذلك لأن رحمة الله سابقة ، فله رحمة ثابتة وهي منشأ الرضوان ، وغضب الله متأخر فهو يكون على ذنب ، فقال : ( رضوانه ) لأنه وصف ثابت لله سابق ، ولم يقل سخط الله ، بل : ( ما أسخط الله ) إشارة إلى أن السخط ليس ثبوته كثبوت الرضوان ، ولهذا المعنى قال في اللعان في حق المرأة : ( والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ) [النور : 9] يقال : "غضب الله" مضافا لأن لعانه قد سبق مظهر الزنا بقوله وأيمانه ، وقبله لم يكن لله غضب ، و"رضوان الله" أمر يكون منه الفعل ، وغضب الله أمر يكون من فعله ، ولنضرب له مثالا : الكريم الذي رسخ الكرم في نفسه يحمله الكرم على الأفعال الحسنة ، فإذا كثر من السيئ الإساءة فغضبه لا لأمر يعود إليه ، بل غضبه عليه يكون لإصلاح حالة ، وزجرا لأمثاله عن مثل فعاله ، فيقال : هو كان الكريم فكرمه لما فيه من الغريزة الجنسية ، لكن فلانا أغضبه وظهر منه الغضب ، فيجعل الغضب ظاهرا من الفعل ، والفعل الحسن ظاهرا من الكرم ، فالغضب في الكريم بعد فعل ، والفعل منه بعد كرم ، ومن هذا يعرف لطف قوله : ( ما أسخط الله وكرهوا رضوانه ) .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( فأحبط أعمالهم ) حيث لم يطلبوا إرضاء الله ، وإنما طلبوا إرضاء الشيطان والأصنام .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            هذا إشارة إلى المنافقين و" أم " تستدعي جملة أخرى استفهامية إذا كانت للاستفهام ، لأن كلمة " أم " إذا كانت متصلة استفهامية تستدعي سبق جملة أخرى استفهامية ، يقال : أزيد في الدار أم عمرو ، وإذا كانت منقطعة لا تستدعي ذلك ، يقال : إن هذا لزيد أم عمرو ، وكما يقال : بل عمرو ، والمفسرون على أنها منقطعة ، ويحتمل أن يقال : إنها استفهامية ، والسابق مفهوم من قوله تعالى : ( والله يعلم إسرارهم ) فكأنه تعالى قال : أحسب الذين كفروا أن لن يعلم الله إسرارهم أم حسب المنافقون أن لن يظهرها والكل قاصر ، وإنما يعلمها ويظهرها ، ويؤيد هذا أن المنقطعة لا تكاد تقع في صدر الكلام فلا يقال ابتداء : بل جاء زيد ، ولا أم جاء عمرو ، والإخراج بمعنى الإظهار فإنه إبراز ، والأضغان هي الحقود والأمراض ، واحدها ضغن .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            لما كان مفهوم قوله : ( أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ) أن الله يظهر ضمائرهم ويبرز سرائرهم كأن قائلا قال : فلم لم يظهر فقال : أخرناه لمحض المشيئة لا لخوف منهم ، كما لا تفشى أسرار الأكابر خوفا منهم : ( ولو نشاء لأريناكهم ) أي لا مانع لنا والإراءة بمعنى التعريف ، وقوله [ ص: 61 ] : ( ولتعرفنهم ) لزيادة فائدة ، وهي أن التعريف قد يطلق ولا يلزمه المعرفة ، يقال : عرفته ولم يعرف ، وفهمته ولم يفهم فقال ههنا : ( لأريناكهم فلعرفتهم ) يعني : عرفناهم تعريفا تعرفهم به ، إشارة إلى قوة التعريف ، واللام في قوله : ( فلعرفتهم ) هي التي تقع في جزاء لو كما في قوله : ( لأريناكهم ) أدخلت على المعرفة إشارة إلى أن المعرفة كالمرتبة على المشيئة كأنه قال : ولو نشاء لعرفتهم ، ليفهم أن المعرفة غير متأخرة عن التعريف فتفيد تأكيد التعريف ، أي لو نشاء لعرفناك تعريفا معه المعرفة لا بعده ، وأما اللام في قوله تعالى : ( ولتعرفنهم ) جواب لقسم محذوف كأنه قال ولتعرفنهم والله ، وقوله : ( في لحن القول ) فيه وجوه

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : في معنى القول ، وعلى هذا فيحتمل أن يكون المراد من القول : قولهم أي لتعرفنهم في معنى قولهم حيث يقولون ما معناه النفاق كقولهم حين مجيء النصر إنا كنا معكم ، وقولهم : ( لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن ) [المنافقون : 8] وقولهم : ( إن بيوتنا عورة ) [الأحزاب : 13] وغير ذلك ، ويحتمل أن يكون المراد قول الله عز وجل أي لتعرفنهم في معنى قول الله تعالى حيث قال ما تعلم منه حال المنافقين كقوله تعالى : ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا ) [النور : 62] وقوله : ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) [الأنفال : 2] إلى غير ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : في ميل القول عن الصواب حيث قالوا ما لم يعتقدوا ، فأمالوا كلامهم حيث قالوا : ( نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ) [المنافقون : 1] وقالوا : ( إن بيوتنا عورة وما هي بعورة ) [الأحزاب : 13] ، : ( ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار ) [الأحزاب : 15] إلى غير ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : في لحن القول أي في الوجه الخفي من القول الذي يفهمه النبي عليه السلام ولا يفهمه غيره ، وهذا يحتمل أمرين أيضا ، والنبي عليه السلام كان يعرف المنافق ولم يكن يظهر أمره إلى أن أذن الله تعالى له في إظهار أمرهم ومنع من الصلاة على جنائزهم والقيام على قبورهم ، وأما قوله : ( بسيماهم ) فالظاهر أن المراد أن الله تعالى لو شاء لجعل على وجوههم علامة أو يمسخهم كما قال تعالى : ( ولو نشاء لمسخناهم ) [يس : 67] وروي أن جماعة منهم أصبحوا وعلى جباههم مكتوب هذا منافق .

                                                                                                                                                                                                                                            وقوله تعالى : ( والله يعلم أعمالكم ) وعد للمؤمنين ، وبيان لكون حالهم على خلاف حال المنافق ، فإن المنافق كان له قول بلا عمل ، والمؤمن كان له عمل ولا يقول به ، وإنما قوله التسبيح ويدل عليه قوله تعالى : ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) [البقرة : 286] وقوله : ( ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا ) [آل عمران : 193] وكانوا يعملون الصالحات ويتكلمون في السيئات مستغفرين مشفقين ، والمنافق كان يتكلم في الصالحات كقوله : ( إنا معكم ) [البقرة : 14] : ( قالت الأعراب آمنا ) [الحجرات : 14] ، : ( ومن الناس من يقول آمنا ) [البقرة : 8] ويعمل السيئ فقال تعالى : الله يسمع أقوالهم الفارغة ويعلم أعمالكم الصالحة فلا يضيع .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية