الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الباب الخامس :

في شفقة التاجر على دينه ، فيما يخصه ، ويعم آخرته .

ولا ينبغي للتاجر أن يشغله معاشه عن معاده فيكون عمره ضائعا وصفقته خاسرة وما يفوته من الربح في الآخرة لا يفي به ما ينال في الدنيا فيكون اشترى الحياة الدنيا بالآخرة بل العاقل ينبغي أن يشفق على نفسه ، وشفقته على نفسه يحفظ ، رأس ماله ، ورأس ماله دينه ، وتجارته فيه .

قال بعض السلف أولى : الأشياء بالعاقل أحوجه إليه في العاجل ، وأحوج شيء إليه في العاجل أحمده عاقبة في الآجل .

وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه في وصيته إنه : لا بد لك من نصيبك في الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فابدأ بنصيبك من الآخرة فخذه ، فإنك ستمر على نصيبك من الدنيا فتنظمه .

قال الله تعالى : ولا تنس نصيبك من الدنيا أي : لا تنس في الدنيا نصيبك منها للآخرة ، فإنها مزرعة الآخرة وفيها تكتسب الحسنات .

وإنما تتم شفقة التاجر على دينه بمراعاة سبعة أمور .

الأول : حسن النية والعقيدة ، في ابتداء التجارة فلينو بها الاستعفاف عن السؤال وكف الطمع عن الناس استغناء بالحلال عنهم واستعانة بما يكسبه على الدين ، وقياما بكفاية العيال ليكون من جملة المجاهدين به ولينو النصح للمسلمين وأن يحب لسائر الخلق ما يحب لنفسه ولينو اتباع طريق العدل والإحسان في معاملته ، كما ذكرناه ولينو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل ما يراه في السوق ، فإذا أضمر هذه العقائد والنيات كان عاملا في طريق الآخرة فإن ، استفاد مالا فهو مزيد وإن خسر في الدنيا ربح في الآخرة .

التالي السابق


(الباب الخامس: في بيان شفقة الرجل على دينه، وخوفه عليه فيما يخصه، ويعم آخرته) *

فمن ذلك: أنه (لا ينبغي للتاجر أن يشغله معاشه) أي: ما يعيش به (عن معاده) أي: أمور آخرته (فيكون عمره) حينئذ ضائعا (وصفقته خاسرة) غير رابحة، وفي القوت: لا ينبغي للصوفي أن يشغله معاش الدنيا عن معاش الآخرة، ولا يمنعه سوق دنياه عن سوق آخرته، ولا أن تقطعه تجارة الدنيا عن تجارة الآخرة (وما يفوته من الربح في الآخرة لا يفي به ما لا بقاء له في الدنيا) بل هو على محز الزوال، وسرعة الانتقال (فيكون ممن اشترى الحياة الدنيا بالآخرة) أي: عوضا عنها (بل العاقل ينبغي) له (أن يشفق على نفسه، وشفقته على نفسه، بحفظ رأس ماله، ورأس ماله دينه، وتجارته فيه، قال بعض السلف: أولى الأشياء بالعاقل أحوجه إليه في العاجل، وأحوج شيء إليه في العاجل أحمده عاقبة في الآجل) كذا هو في القوت .

(و) كذلك (قال [ ص: 506 ] معاذ بن جبل) رضى الله عنه، تقدمت ترجمته (فى وصيته: أنه لا بد لك من نصيبك من الدينا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج، فابدأ بنصيبك من الآخرة فخذه، فإنك ستمر على نصيبك من الدنيا) فينتظمه لك انتظاما، ويزول معك حيث ما زلت، كذا في القوت .

وقال أبو نعيم في الحلية: حدثنا سهيل بن موسى، حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا خالد بن الحارث، حدثنا ابن عون، عن محمد بن سيرين، قال: أتى رجل معاذ بن جبل، ومعه أصحابه، يسلمون عليه، ويودعونه، فقال: إني موصيك بأمرين، إن حفظتهما حفظت: إنه لا غنى لك عن نصيبك من الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أفقر، وآثر نصيبك من الآخرة على نصيبك من الدنيا، حتى ينتظمه لك انتظاما، فتنزل به معك أينما نزلت (وقال) الله (تعالى: ولا تنس نصيبك من الدنيا الآية) أي: إلى آخرها، وقد ذكرت قريبا، وهو قوله: وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض (أي: لا تنس نصيبك منها للآخرة، فإنها) أي: الدنيا (مزرعة للآخرة) وتقدم بيانها في كتاب المعلم (وفيها تكتب الحسنات) ولفظ القوت: لأنك من ههنا تكسب الحسنات، فتكون هناك في مقام المحسنين، ففي الخطاب مضمر; لدليل الكلام عليه في قوله عز وجل: وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض .

(وإنما تتم شفقة التاجر على دينه بمراعاة سبعة أمور، الأول: حسن النية، و) حسن (العقيدة في ابتداء التجارة) أي: قبل الدخول بها (فلينو بها) أي: بتلك التجارة (الاستعفاف عن السؤال) أي: طلب عفة النفس منه (وكف الطمع عن الناس) أي: عما في أيديهم من المال (استغناء بالحلال) مما يحصل له منها (واستعانة بما يكسبه على) أمور (الدين، وقياما بكفاية العيال) مما يحتاجون إليه من المؤن (فيكون بذلك من جملة المجاهدين به) فإن الكد على تحصيل قوت العيال مقامه مقام الجهاد (ولينو النصح للمسلمين) في معاملتهم (وأن يحب لسائر الخلق ما يحب لنفسه) فإنه صريح الإيمان (ولينو اتباع طريق العدل) والتوسط (والإحسان في معاملته، كما ذكرناه) مفصلا (ولينو) أيضا (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) مهما أمكنه ذلك (فى كل ما يراه في السوق) وفي ممره إلى السوق (مع) ملازمة سبيل (الصدق، فإذا أضمر) في باطنه (هذه العقائد والنيات) وعقد قلبه عليها (كان عاملا في طريق الآخرة، فإذا استفاد) من تجارته مالا (فهو مزيد) له من الله تعالى (وإن خسر في الدنيا) مع محافظته لما ذكرنا (ربح في الآخرة) أي: لم يخسر ربح الآخرة الحاصل من المحافظة .

ولفظ القوت: ثم لينو المتصرف في معاشه كف نفسه عن المسألة، والاستغناء عن الناس، وقطع الطمع منهم، والتشوف إليهم، فذلك له إذا نواه أزكى عبادة، ثم ليحسب السعي على نفسه، وعياله، في سبيل الله عز وجل، فذلك له مجاهدة، وما أنفقه على نفسه، أو أطعمه عياله، فهو له صدقة، وعليه الصدق في القول، والنصح في معاملة إخوانه المسلمين; لأجل الدين، ويعتقد سلامة الناس منه، ونصحه لهم، ورحمته إياهم، ويعمل في ذلك، ويكون أبدا مقدما للدين والتقوى في كل شيء، مراعيا لأمر الله تعالى قبل كل شيء، فإن انتظمت دنياه بعد ذلك حمد الله تبارك وتعالى، وشكره، وكان ذلك ربحا، ورجحانا، وإن تكدرت لذلك دنياه، وتعذرت لأجل الدين والتقوى أحواله في أمور الدنيا، كان قد أحرز دينه، وربحه، وحفظ رأس ماله من تقواه، وسلم له، فهو المعول عليه، والحاصل له; لأن من ربح من الدنيا مثل المال وخسر عشر الدين، فما ربحت تجارته، ولا هدي سبيله، وهو عند الله من الخاسرين .




الخدمات العلمية