الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                417 [ ص: 397 ]

                                48 - باب

                                هل تنبش قبور مشركي الجاهلية، ويتخذ مكانها مساجد

                                لقول النبي صلى الله عليه وسلم: لعن الله اليهود ; اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد

                                وما يكره من الصلاة في القبور

                                ورأى عمر أنس بن مالك يصلي عند قبر، فقال: القبر القبر، ولم يأمره بالإعادة

                                التالي السابق


                                مقصود البخاري بهذا الباب: كراهة الصلاة بين القبور وإليها ، واستدل لذلك بأن اتخاذ القبور مساجد ليس هو من شريعة الإسلام، بل من عمل اليهود ، وقد لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.

                                وقد خرج البخاري هذا الحديث فيما تقدم، وسيأتي قريبا - إن شاء الله تعالى.

                                وقد دل القرآن على مثل ما دل عليه هذا الحديث، وهو قول الله عز وجل في قصة أصحاب الكهف: قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا فجعل اتخاذ القبور على المساجد من فعل أهل الغلبة على الأمور، وذلك يشعر بأن مستنده القهر والغلبة واتباع الهوى، وأنه ليس من فعل أهل العلم والفضل المتبعين لما أنزل الله على رسله من الهدى.

                                وإذا كرهت الصلاة إلى القبور وبينها، فإن كانت القبور محترمة اجتنبت الصلاة فيها، وإن كانت غير محترمة كقبور مشركي الجاهلية ونحوهم ممن لا عهد له ولا ذمة مع المسلمين فإنه يجوز نبشها ونقل ما يوجد فيها من عظامهم، والصلاة في موضعها ; فإنها لم تبق مقبرة ولا بقي فيها قبور، وقد نص الإمام [ ص: 398 ] أحمد على ذلك في رواية المروذي .

                                وأما ما ذكره عن عمر رضي الله عنه، فمن رواية سفيان ، عن حميد ، عن أنس ، قال: رآني عمر وأنا أصلي إلى قبر، فجعل يشير إلي: القبر القبر.

                                ورواه إسماعيل بن جعفر عن حميد ، عن أنس ، حدثه أنه قام يصلي إلى قبر لا يشعر به، فناداه عمر : القبر القبر. قال: فظننت أنه يقول: القمر، فرفعت رأسي، فقال رجل: إنه يقول: القبر، فتنحيت.

                                وروي عن أنس ، عن عمر من وجوه أخر.

                                وروى همام : ثنا قتادة ، أن أنسا مر على مقبرة وهم يبنون مسجدا، فقال أنس : كان يكره أن يبنى مسجد في وسط القبور.

                                وقال أشعث : عن ابن سيرين : كانوا يكرهون الصلاة بين ظهراني القبور.

                                خرج ذلك كله أبو بكر الأثرم .

                                وقال: سمعت أبا عبد الله - يعني: أحمد - يسأل عن الصلاة في المقبرة؟ فكره الصلاة في المقبرة. فقيل له: المسجد يكون بين القبور، أيصلى فيه؟ فكره ذلك. قيل له: إنه مسجد وبينه وبين القبور حاجز؟ فكره أن يصلى فيه الفرض، ورخص أن يصلى فيه على الجنائز. وذكر حديث أبي مرثد الغنوي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " لا تصلوا إلى القبور " وقال: إسناد جيد.

                                وحديث أبي مرثد هذا: خرجه مسلم ، ولفظه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها ".

                                [ ص: 399 ] وروي عن عمرو بن يحيى المازني ، عن أبيه، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:

                                " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، إلا المقبرة والحمام ".

                                خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وابن حبان والحاكم وصححه.

                                وقد اختلف في إرساله ووصله بذكر " أبي سعيد " فيه، ورجح كثير من الحفاظ إرساله: عن عمرو بن يحيى ، عن أبيه، ومنهم: الترمذي والدارقطني .

                                وفي الباب أحاديث أخر، قد استوفيناها في " كتاب شرح الترمذي ".

                                وأما ما ذكره البخاري : أن عمر لم يأمر أنسا بالإعادة.

                                فقد اختلف في الصلاة في المقبرة: هل تجب إعادتها أم لا؟

                                وأكثر العلماء على أنه لا تجب الإعادة بذلك، وهو قول مالك ، والشافعي ، وأحمد في رواية عنه.

                                والمشهور عن أحمد الذي عليه عامة أصحابه: أن عليه الإعادة ; لارتكاب النهي في الصلاة فيها.

                                وهو قول أهل الظاهر - أو بعضهم - وجعلوا النهي هاهنا لمعنى يختص بالصلاة من جهة مكانها، فهو كالنهي عن الصلاة المختص بها لزمانها كالصلاة في أوقات النهي، وكالصيام المنهي عنه لأجل زمنه المختص به كصيام العيدين.

                                حتى إن من أصحابنا من قال: متى قلنا: النهي عن الصلاة في المقبرة والأعطان ونحوها للتحريم، فلا ينبغي أن يكون في بطلان الصلاة فيها خلاف [ ص: 400 ] عن أحمد ، وإنما الخلاف عنه في عدم البطلان مبني على القول بأنه مكروه كراهة تنزيه.

                                وأكثر العلماء على أن الكراهة في ذلك كراهة تنزيه، ومنهم من رخص فيه.

                                قال ابن المنذر : اختلفوا في الصلاة في المقبرة، فروينا عن علي وابن عباس وعبد الله بن عمرو وعطاء والنخعي أنهم كرهوا الصلاة فيها. واختلف عن مالك فيه، فحكى ابن القاسم عنه أنه قال: لا بأس به، وحكى أبو مصعب عنه أنه قال: لا أحب ذلك.

                                قال ابن المنذر : ونحن نكره من ذلك ما كرهه أهل العلم استدلالا بالثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبورا " ففي هذا دليل على أن المقبرة ليست بموضع للصلاة.

                                قلت: قد استدل البخاري بذلك - أيضا - وعقد له بابا مفردا، وسيأتي في موضعه - إن شاء الله تعالى.

                                قال ابن المنذر : وقد قال نافع مولى ابن عمر : صلينا على عائشة وأم سلمة وسط البقيع، والإمام يومئذ أبو هريرة ، وحضر ذلك ابن عمر .

                                قلت: صلاة الجنازة مستثناة من النهي عند الإمام أحمد وغيره، وقد سبق قول أحمد في ذلك. وقال - أيضا -: لا يصلي في مسجد بين المقابر إلا الجنائز ; لأن الجنائز هذه سنتها.

                                يشير إلى فعل الصحابة رضي الله عنهم.

                                قال ابن المنذر : وروينا أن واثلة بن الأسقع كان يصلي في المقبرة، غير أنه لا يستتر بقبر.

                                [ ص: 401 ] قلت: لأنه هو روى عن أبي مرثد حديث النهي عن الصلاة إلى القبور، فكان يخص النهي بحالة استقبال القبر خاصة.

                                قال ابن المنذر : وصلى الحسن البصري في المقابر.

                                قلت: لعله صلى على جنازة، فإنه روي عنه أنه أمر بهدم المساجد المبنية في المقابر.

                                قال: وكره عمر بن الخطاب وأنس بن مالك الصلاة إلى المقابر. انتهى ما ذكره.

                                واختلف القائلون بالكراهة في علة النهي:

                                فقال الشافعي : علة ذلك النجاسة، فإن تراب المقابر يختلط بصديد الموتى ولحومهم، فإن كانت طاهرة صحت الصلاة فيها مع الكراهة.

                                وقسم أصحابه المقبرة إلى ثلاثة أقسام: ما تكرر نبشها، فلا تصح الصلاة فيها ؛ لاختلاط ترابها بالصديد. وجديدة لم تنبش، فتصح الصلاة فيها مع الكراهة ; لأنها مدفن للنجاسة.

                                وما شك في نبشها، ففي صحة الصلاة فيها قولان.

                                واختلف أصحابنا في علة النهي عن الصلاة، فمنهم من قال: هو مظنة النجاسة، ومنهم من قال: هو تعبد لا يعقل.

                                وقالوا مع هذا: لا فرق بين أن تكون قديمة أو حديثة، نبشت أو لم تنبش، إذا تناولها اسم مقبرة.

                                قالوا: فإن كان في بقعة قبر أو قبران فلا بأس بالصلاة فيها ما لم يصل إلى القبر.

                                وأنكر آخرون التعليل بالنجاسة، بناء على طهارة تراب المقابر بالاستحالة، [ ص: 402 ] وعللوا: بأن الصلاة في المقبرة وإلى القبور إنما نهي عنه؛ سدا لذريعة الشرك، فإن أصل الشرك وعبادة الأوثان كانت من تعظيم القبور، وقد ذكر البخاري في " صحيحه " في " تفسير سورة نوح " عن ابن عباس معنى ذلك، وسنذكره فيما بعد - إن شاء الله تعالى.

                                وفي " صحيح مسلم " عن جندب ، سمع النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس يقول: " إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك ".

                                وهذا يعم كل القبور.

                                وخرج الإمام أحمد وابن حبان في " صحيحه " من حديث ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد ".

                                وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي صالح ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لعن الله زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج ".

                                وقال الترمذي : حسن - وفي بعض النسخ: صحيح.

                                وخرج ابن حبان في " صحيحه " والحاكم وصححه.

                                واختلف في أبي صالح هذا، من هو؟

                                [ ص: 403 ] فقيل: إنه السمان -: قاله الطبراني ، وفيه بعد. وقيل: إنه ميزان البصري ، وهو ثقة ; قاله ابن حبان . وقيل: إنه باذان مولى أم هاني -: قاله الإمام أحمد والجمهور.

                                وقد اختلف في أمره:

                                فوثقه العجلي . وقال ابن معين : ليس به بأس. وقال أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال النسائي : ليس بثقة. وضعفه الإمام أحمد وقال: لم يصح عندي حديثه هذا.

                                وقال مسلم في " كتاب التفصيل ": هذا الحديث ليس بثابت، وأبو صالح باذام قد اتقى الناس حديثه، ولا يثبت له سماع من ابن عباس .

                                وروي عن زيد بن ثابت ، أنه نهى أن يبنى عند قبر أبيه مسجد.

                                خرجه حرب الكرماني .

                                وقال أبو بكر الأثرم في كتاب " الناسخ والمنسوخ ": إنما كرهت الصلاة في المقبرة للتشبه بأهل الكتاب ; لأنهم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد.

                                ووجدنا في كتاب مصنف على مذهب سفيان الثوري : وإذا صلى الرجل وبين يديه ميت تنحى عنه. إنما كره الصلاة إلى القبور من أجل الميت، فإن صلى إليها فلا بأس.

                                وفيه - أيضا -: قال سفيان : ويكره أن يصلي الرجل إلى القبور أو ما بين القبور. ثم قال: ومن صلى إلى القبور فلا إعادة عليه.

                                وفيه: قال: ولا تعجبني الصلاة على الجنازة في المقبرة.

                                [ ص: 404 ] وهذا قول الشافعي وإسحاق ورواية عن أحمد ; لعموم النهي عن الصلاة في المقبرة.

                                واستدل من رخص في صلاة الجنازة في المقبرة: بأن الصلاة على القبر جائزة بالسنة الصحيحة، فعلم أن الصلاة على الميت في القبور غير منهي عنها.

                                خرج البخاري في هذا الباب حديثين:




                                الخدمات العلمية