الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض والله بكل شيء عليم يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين )

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 123 ] إرشادا للأعراب الذين قالوا آمنا إلى حقيقة الإيمان ، فقال : إن كنتم تريدون الإيمان فالمؤمنون من آمن بالله ورسوله ثم لم يرتابوا ، يعني أيقنوا بأن الإيمان إيقان ، و " ثم " للتراخي في الحكاية ، كأنه يقول : آمنوا ، ثم أقول شيئا آخر : لم يرتابوا ، ويحتمل أن يقال : هو للتراخي في الفعل ، تقديره آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا فيما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحشر والنشر . وقوله تعالى : ( وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم ) يحقق ذلك ، أي أيقنوا أن بعد هذه الدار دارا ، فجاهدوا طالبين العقبى ، وقوله : ( أولئك هم الصادقون ) في إيمانهم ، لا الأعراب الذين قالوا قولا ولم يخلصوا عملا .

                                                                                                                                                                                                                                            ( قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض والله بكل شيء عليم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            فإنه عالم به لا يخفى عليه شيء ، وفيه إشارة إلى أن الدين ينبغي أن يكون لله ، وأنتم أظهرتموه لنا لا لله ، فلا يقبل منكم ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            ( يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين ) .

                                                                                                                                                                                                                                            يقرر ذلك ويبين أن إسلامهم لم يكن لله ، وفيه لطائف : الأولى : في قوله تعالى : ( يمنون عليك ) زيادة بيان لقبيح فعلهم ؛ وذلك لأن الإيمان له شرفان ، أحدهما : بالنسبة إلى الله تعالى وهو تنزيه الله عن الشرك وتوحيده في العظمة ، وثانيهما : بالنسبة إلى المؤمن فإنه ينزه النفس عن الجهل ويزينها بالحق والصدق ، فهم لا يطلبون بإسلامهم جانب الله ، ولا يطلبون شرف أنفسهم بل منوا ، ولو علموا أن فيه شرفهم لما منوا به بل شكروا .

                                                                                                                                                                                                                                            اللطيفة الثانية : قال : ( قل لا تمنوا علي إسلامكم ) أي الذي عندكم إسلام ؛ ولهذا قال تعالى : ( ولكن قولوا أسلمنا ) ولم يقل : لم تؤمنوا ولكن أسلمتم لئلا يكون تصديقا لهم في الإسلام أيضا كما لم يصدقوا في الإيمان ، فإن قيل : لم لم يجز أن يصدقوا في إسلامهم ، والإسلام هو الانقياد ، وقد وجد منهم قولا وفعلا وإن لم يوجد اعتقادا وعلما ، وذلك القدر كاف في صدقهم ؟ نقول : التكذيب يقع على وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن لا يوجد نفس المخبر عنه .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيهما : أن لا يوجد كما أخبر في نفسه فقد يقول : ما جئتنا بل جاءت بك الحاجة ، فالله تعالى كذبهم في قولهم آمنا على الوجه الأول ، أي ما آمنتم أصلا ، ولم يصدقوا في الإسلام على الوجه الثاني ، فإنهم انقادوا للحاجة وأخذ الصدقة .

                                                                                                                                                                                                                                            اللطيفة الثالثة : قال : ( بل الله يمن عليكم ) يعني لا منة لكم ، ومع ذلك لا تسلمون رأسا برأس بحيث لا يكون لكم علينا ولا لنا عليكم منة ، بل المنة عليكم ، وقوله تعالى : ( بل الله يمن عليكم ) حسن أدب حيث لم يقل : لا تمنوا علي بل لي المنة عليكم حيث بينت لكم الطريق المستقيم ، ثم في مقابلة هذا الأدب قال الله تعالى : ( وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ) [ الشورى : 52 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            اللطيفة الرابعة : لم يقل : يمن عليكم أن أسلمتم بل قال : ( أن هداكم للإيمان ) لأن إسلامهم كان ضلالا حيث كان نفاقا فما من به عليهم ، فإن قيل : كيف من عليهم بالهداية إلى الإيمان مع أنه بين أنهم لم يؤمنوا ؟ نقول : [ ص: 124 ] الجواب عنه من ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنه تعالى لم يقل : بل الله يمن عليكم أن رزقكم الإيمان ، بل قال : ( أن هداكم للإيمان ) وإرسال الرسل بالآيات البينات هداية .

                                                                                                                                                                                                                                            ثانيها : هو أنه تعالى يمن عليهم بما زعموا ، فكأنه قال : أنتم قلتم آمنا ، فذلك نعمة في حقكم ، حيث تخلصتم من النار ، فقال : هداكم في زعمكم .

                                                                                                                                                                                                                                            ثالثها : وهو الأصح ، هو أن الله تعالى بين بعد ذلك شرطا فقال : ( إن كنتم صادقين ) .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية