الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
أما بعد : فقد قال صلى الله عليه وسلم : طلب الحلال فريضة على كل مسلم .

، رواه ابن مسعود رضي الله عنه وهذه الفريضة من بين سائر الفرائض أعصاها على العقول فهما وأثقلها على الجوارح فعلا ولذلك اندرس بالكلية علما وعملا وصار غموض علمه سببا لاندراس عمله إذ ظن الجهال أن الحلال مفقود وأن السبيل دون الوصول إليه مسدود وأنه لم يبق من الطيبات إلا الماء الفرات والحشيش النابت في الموات وما عداه فقد أخبثته الأيدي العادية وأفسدته المعاملات الفاسدة وإذا تعذرت القناعة بالحشيش من النبات لم يبق وجه سوى الاتساع في المحرمات فرفضوا هذا القطب من الدين أصلا ولم يدركوا بين الأموال فرقا وفصلا ، وهيهات هيهات ، فالحلال بين والحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهات ولا تزال هذه الثلاثة مقترنات كيفما تقلبت الحالات .

ولما كانت هذه بدعة عم في الدين ضررها واستطار في الخلق شررها وجب كشف الغطاء عن فسادها بالإرشاد إلى مدرك الفرق بين الحلال والحرام والشبهة على وجه التحقيق والبيان ، ولا يخرجه التضييق عن حيز الإمكان .

ونحن نوضح ذلك في سبعة أبواب .

الباب الأول في فضيلة طلب الحلال ومذمة الحرام ودرجات الحلال والحرام .

الباب الثاني : في مراتب الشبهات ومثاراتها وتمييزها عن الحلال والحرام .

، الباب الثالث في البحث والسؤال والهجوم والإهمال ومظانها في الحلال والحرام .

الباب الرابع في كيفية خروج التائب عن المظالم المالية .

الباب الخامس في إدرارات السلاطين وصلاتهم وما يحل منها وما يحرم .

الباب السادس في الدخول على السلاطين ومخالطتهم .

الباب السابع في مسائل متفرقة .

التالي السابق


(أما بعد: فقد قال صلى الله عليه وسلم: طلب الحلال فريضة على كل مسلم ، رواه ابن مسعود ) ، ولفظ القوت: وروينا عن ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فساقه، قال العراقي : تقدم في الزكاة دون قوله: على كل مسلم، والطبراني في الأوسط من حديث أنس : واجب على كل مسلم ، وإسناده ضعيف اهـ، قلت: ولكن الهيثمي رفيقه قال: وإسناده حسن، ورواه الديلمي أيضا في مسند الفردوس باللفظ المذكور، وفيه بقية والزبير بن خريق ضعيفان، واختلف في معنى قوله: طلب الحلال ، على وجهين; الأول أن المراد طلب معرفة الحلال من الحرام والتمييز بينهما في الأحكام، وهو علم الفقه، وبه فسروا حديث: طلب العلم فريضة ، كما سيأتي للمصنف قريبا .

ويؤيده ما رواه الحاكم في تاريخه من حديث أنس : طلب الفقه حتم واجب على كل مسلم .

الثاني: إن المراد طلب الكسب الحلال للقيام بمؤنة من تلزمه مؤنته، وقد وقع التصريح به في حديث ابن مسعود المذكور فيما رواه الطبراني في الكبير، والبيهقي وضعفه: طلب الكسب الحلال فريضة بعد الفريضة ، وقد تقدم شيء من ذلك في كتاب الزكاة، (وهذه الفريضة من بين سائر الفرائض أعصاها على العقول فهما) ، أي: أكثرها عصيانا، فالفهم لا يقيدها (وأثقلها على الجوارح) المحسوسة (فعلا) ، فهي تأبى عن جملها (فلذلك اندرس) أي: انمحى (بالكلية علما وعملا) ، وفيه لف ونشر مرتب .

(وصار غموض علمها) ودقة فهمها (سببا لاندراس عملها إذ ظن الجهال) من العلماء (أن الحلال مفقود) في الأوان (وأن السبيل) ، أي: الطريق الموصل (إليه دون الوصول مسدود) ، فلا مطمع في الورود على مشارعه (وإنه لم يبق من الطيبات) المأمور [ ص: 5 ] بتحصيلها (إلا الماء الفرات) العذب (والحشيش) النبات (في أرض الموات وما عدا ذلك فقد اجتنته) ، أي: اقتلعته (الأيدي العاديات) ، أي: المجاوزات عن الحدود (وأفسدته المعاملات) بين الناس (الفاسدة) شرعا (فإذا تعذرت القناعة بالحشيش من النبات) ، والحشيش هو اليابس من الكلأ فعيل بمعنى فاعل، قالوا: ولا يقال للرطب حشيش كما في المصباح، وهو قول أئمة اللغة، ومراد المصنف هنا إنما هو الرطب، فإنه هو الذي يتقوت به، وأما اليابس فلا، وقد أطلقه على الرطب هنا تجوزا، وهذا نظير قول الفقهاء: يحرم على المحرم قطع الحشيش، ونبهوا على أنه ليس على ظاهره، فإن اليابس من الكلأ لا يحرم قطعه، فالوجه أن يقال: يحرم قطع الخلا إلا أن يقال: إنه على التجوز، فتأمل .

(لم يبق وجه سوى الاتساع في المحرمات) ، وهذا على حسب ظنهم الفاسد، (فرفضوا) أي: تركوا (هذا القطب من الدين) الذي عليه المدار (أصلا) أي: من أصله (ولم يدركوا بين الأموال) المحرمة والمحللة (فرقا ولا فصلا، وهيهات هيهات، فالحلال بين) أي: ظاهر (والحرام بين، وبينهما أمور متشابهات) لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، الحديث رواه الشيخان والأربعة من حديث النعمان بن بشير ، وسيأتي الكلام عليه في الباب الثاني من مراتب الشبهات من هذا الكتاب، والحديث نص في هذه المراتب الثلاث .

(ولا تزال هذه الثلاثة مقترنات) لا تنفك (كيفما تقلبت الحالات) على اختلاف الأزمنة المتطاولات (ولما كانت هذه بدعة) قبيحة (عم في الدين ضررها واستطار في الخلق شررها) ، وهو بالتحريك مقصور من الشرار كالسحاب اسم لما تطاير من النار (وجب الكشف للغطاء) الحاجب (عن فسادها) ، أي: تلك البدعة (بالإرشاد) والهداية (إلى مدرك الفرق بين الحرام والحلال والشبهة) ، قال في المصباح: المدرك بفتح الميم يكون مصدرا، واسم زمان ومكان، ومدارك الشرع مواضع طلب الأحكام، ومن حيث يستدل بالنصوص والاجتهاد من مدارك الشرع والفقهاء يقولون في الواحد: مدرك بفتح الميم، وليس لتخريجه وجه، وقد نص الأئمة على طرد الباب، فيقال: مفعل بضم الميم من أفعل، واستثنيت كلمات مسموعة خرجت عن القياس، ولم يذكروا المدرك مما خرج عن القياس، فالوجه الأخذ بالأصول القياسية حتى يصح سماع، وقد قالوا: الخارج عن القياس لا يقاس عليه; لأنه غير مؤصل في بابه، والله أعلم .

(على وجه التحقيق والبيان، ولا يخرجه التضييق من حيز الإمكان) ، والحيز كالسيد لغة كل مجتمع بعضه مع بعض، والإمكان ضد الامتناع، (ونحن نوضح ذلك في) ضمن (سبعة أبواب) عدد أبواب الجنان، (الباب الأول في فضيلة طلب الحلال ومذمة الحرام) ، وما ورد في كل منهما من الآيات والأخبار والآثار، (و) فيه بيان (درجات الحلال والحرام، الباب الثاني: في) بيان (مراتب الشبهات) الملتصقة، إما بالحلال أو بالحرام، (ومثاراتها) جمع مثار، أي: الموضع الذي تثور منه الشبهات، (وتمييزها عن الحرام والحلال، الباب الثالث في البحث) ، والسعي (والسؤال والهجوم والإهمال ومظانهما في) كل من (الحلال والحرام، الباب الرابع في كيفية خروج النائب من المظالم المالية، الباب الخامس في إدرارات السلاطين) ، والأمراء، ومن في معناهم ووظائفهم وجراياتهم، (وصلاتهم وما يحل) التناول (منها وما يحرم، الباب السادس في) حكم (الدخول على السلاطين) والأمراء، (ومخالطتهم وما يتعلق بذلك، الباب السابع في مسائل متفرقة) لها مناسبة بتلك الأبواب (يكثر مسيس الحاجة إليها وتعم البلوى بها، ويجب النظر فيها) .




الخدمات العلمية