الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم

                                                          * * *

                                                          شجر بينهم معناها تنازعوا فيما بينهم، واختلط الحق بالباطل، وتشابكت الأمور كما تتشابك غصون الأشجار، وإن التحاكم يكون في مثل هذه الأمور التي [ ص: 1744 ] تتشابك فيها عناصر الحق والباطل، ويلتبس بعضها ببعض، ولا يعرف الحق الصريح الواضح من بينها، ويميزه الحاكم العادل الفاحص، الذي ينظر إلى الأمور بعمق، وتدبر، وقوة فراسة، وعزمة على الحق، وطلبه بإخلاص لا هوى.

                                                          فلا وربك أيها النبي الكريم، لا يؤمنون، ولا يعدون في عداد المؤمنين، حتى يحكموك فيما يكون بينهم من خلاف، فإن من أول مظاهر الإيمان والإذعان للحق الرضا بتحكيم الشرع في الخلاف.

                                                          وهنا ثلاثة بحوث لفظية:

                                                          أولها: (الفاء) في قوله تعالى: فلا وربك ونقول إنها فاء الإفصاح؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، ومعنى الكلام: إذا كانت طاعة الرسول واجبة بحكم أنه رسول من عند الله، فإنهم يؤمنون برسالته حتى يرتضوا التحاكم إليه. ثانيها: (لا) في قوله تعالى: فلا وربك قال الزمخشري إنها زائدة لتقوية الكلام، فيكون النص كقوله تعالى: فوربك لنسألنهم أجمعين [الحجر]، وقد قال الطبري : إن "لا" ليست زائدة، وإنما هي رد على ما تقدم ذكره من تحاكمهم إلى الطاغوت وتركهم حكم الشرع، وقد قال في ذلك: "قوله (فلا) رد على ما تقدم ذكره، تقديره: فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك ثم استأنف القسم بقوله: وربك لا يؤمنون ".

                                                          ثالثها: أن الله سبحانه وتعالى أقسم بذاته العلية، ولكنه أضاف الربوبية إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (وربك) يا أيها النبي، تكريما لذات النبي) ، وإعلاء لشأنه، وجواب القسم هو قوله تعالى: لا يؤمنون

                                                          ومن هذا النص السامي يتبين أن أول مظهر من مظاهر الإيمان الرضا بحكم الشرع، ولكن الرضا وحده ليس كافيا بل لا بد من أمرين آخرين، وهما أن يكون الرضا عن طيب نفس من غير حرج ولا ضيق، وثانيهما التسليم والخضوع لحكم الشرع. وقد قال سبحانه وتعالى في ذلك: [ ص: 1745 ] ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت الحرج الضيق والتململ من الحكم أو الشك في صحته، والمعنى: أن من مظاهر الإيمان أن يقبلوا التحاكم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ابتداء، وإذا صدر الحكم لا يشكون في صحته، ولا يضيقون ويتبرمون به، بل يتقبلونه بقبول حسن; لأن قبول الأحكام على أنها من عند الله ينهي الخصومات، ويلقي بالسلام بعدها; لأنهم تحاكموا إلى ذي الجلال والإكرام. وقد تكلم العلماء في العطف بـ"ثم" بدل الفاء أو الواو، فقال إن "ثم" تدل على التراخي، وكأن الله يغفر لهم الإثم الذي يصيبهم عند صدمة الحكم لهم بالنطق به، ولكن عليهم أن يروضوا أنفسهم على القبول والإذعان، من غير ضيق ولا تململ، لكي يكون الحكم حاسما للخلاف قاطعا للنزاع.

                                                          ويسلموا تسليما هذا هو الوصف الثالث لأهل الإيمان بالنسبة لأحكام الشرع الشريف. والتسليم معناه الانقياد والإذعان التام في المظهر والحس. وإذا كان الوصف الثاني لبيان الخضوع النفسي، فهذا الوصف الثالث لبيان الخضوع الحسي الظاهر. وقد أكد سبحانه وتعالى التسليم بالمصدر فقال: "تسليما" للإشارة إلى وجوب الإذعان المطلق من غير أن يثيروا أي شبهة حول الحكم، ولا أن يماروا فيه مراء ظاهرا، فإن المراء قد يثير نزاعا جديدا، والقضاء يجب أن يكون حاسما قاطعا.

                                                          وأصل التسليم هو تقديم النفس، وجعلها خالصة لمن يسلم إليه. يقال: سلم لأمر الله وأسلم له. إذا جعل نفسه خالصة لله تعالى، ثم أطلق التسليم على الانقياد الظاهري، وعدم المماراة فيما يقرره الشرع من حقوق وواجبات.

                                                          ويجب التنبيه إلى أن التحاكم إلى النبي بعد وفاته هو التحاكم إلى كتاب الله تعالى وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيجب أن يعلم كل من يسمي نفسه مسلما أن الله تعالى يقرر أنه لا يؤمن من لا يتحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، ثم لا يجد ضيقا في حكم الشرع، بل يرضى به، وينقاد له انقيادا ظاهرا وباطنا. وإذا كان ذلك ما يقره الشرع، فليعلم المسلمون اليوم مكانهم من الإيمان، وقد ارتضوا حكم القوانين [ ص: 1746 ] الأوروبية بدل كتاب الله وسنة رسوله، وإذا دعوا إلى حكم الله ضاقت صدورهم حرجا، وتململوا ولم يسلموا، بل يناوئون ويعاندون; إذ هم يؤمنون بما عند الأوروبيين أكثر من إيمانهم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله! ولا حول ولا قوة إلا بالله.

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية