الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 287 ] بسم الله الرحمن الرحيم

سورة النور

قوله تعالى : الزانية والزاني ، الآية \ 2 : اعلم أن الزنا كان معروفا في اللغة قبل الشرع، مثل اسم السرقة والقتل، وكان موضوعا للفعل الخاص القبيح، وأطلق على فعل خاص حقيقة، وجعل وطء رجل امرأة في فرجها من غير نكاح ولا شبهة نكاح بمطاوعتها زنا، وذلك إنما علم بالسمع، ولولا السمع لحسن ذلك، لأن استمتاعه بها وهي راضية، بمنزلة استخدامه لا فيما ينتفعان به فلا مضرة ولا ظلم.

والأصل أن النفع العاجل لا يحرم إلا بالسمع، وقد اختلفت الأمم في استقباح هذا الجنس : فقوم من العرب كانوا يسيبون الإماء، ويطلبون النسل.

ومنهم من كان يرضى بأن يكون نساؤهم بغايا.

ومنهم من كان يرضى بنكاح الزانيات.

ومتى قيل إن في الزنا اختلاط الأنساب والجهل بتمييزها، والعقل يشهد بقبح ما يرفع الأنساب ويبطله.

[ ص: 288 ] فالجواب، أن ثبوت النسب إنما يجب أن نعرفه، لما يتعلق به من الأحكام الشرعية، فأما من جهة العقل فلا يلزم ذلك، فإن عرف المرء بالظاهر أن الابن مخلوق من مائه سر به، وإلا لم يجب أن يعرف ذلك، وإذا كانت الأنساب لا يجب معرفتها عقلا، ولا حكم يجب أن يتعلق بها من جهة العقل، لولا العلم بها لما تم، فمن أين أن العقل المؤدي إلى الجهل بالأنساب يقبح.

ولئن قيل : إذا لم يتخصص الولد بوالد، فمن يربي الولد وينهض بكفايته؟

فيقال : وحيث قيل هذا أب، لم يجب عقلا أن يقوم بكفايته، وتولده من مائه من أين أوجب عليه عقلا أن يقوم بمئونته وكفايته وتربيته؟

نعم إن ذلك تلقي من السمع.

وحيث لا يكون كذلك، فيجب على الناس عقلا السعي فيما فيه صلاحهم وبقاء جنسهم، وهذا بين.

وإذا ثبت ذلك، فقد اختلف العلماء في مسائل، وأن اسم الزنا هل يتناولها؟ وليس نعني به أن يتعرف ذلك من جهة اللغة، ولكن الزنا صار في الشرع اسما لمحظور خاص، فهل نقول إن ذلك المحظور هل وجد، فنرجع الخلاف إليه؟ مثل قولنا : المجامع في الدبر هل يكون زانيا؟ وواطئا أمه وأخته وابنته باسم النكاح؟ هل يكون تحريم فعله كتحريم فعل من زنا بأجنبية أو زنا بها قبل النكاح حتى يسمى زنا؟

واختلفوا في أحكام شرعية لاختلاف عقائدهم في أنها متعلقة باسم الوطء، أو بمعنى يختص به الحلال، مثل تحريم المصاهرة.

[ ص: 289 ] واختلفوا في تحريم المصاهرة.

واختلفوا في تحريم المخلوقة من ماء الزنا، فإنهم اختلفوا في أن تحريم بنته إنما كان لمكان النسب، أو لمكان أنها تولدت من مائه مطلقا.

وإذا وطئها في دبرها أو لاط بغلام، فقد اختلفوا فيه على حسب اختلافهم في أن الزنا أوجب الحد، لكونه مستنكرا في النفوس والطباع، وهو مؤذن بالهتكة والفضيحة، فإذا كان كذلك، فاللواط أعظم وأشنع في هذا الباب.

ومنهم من يرى أن السبب في تعظيم تحريمه، ما يتولد من فساد النسل واختلاط الأنساب.

وظن ظانون أن كتاب الله تعالى لا ينبئ عن دخول اللواط تحت اسم الزنا، لأن الله سبحانه قال : الزانية والزاني .

فقيل لهم : لم يذكر في الظاهر الزاني بها والزانية به، بل أطلق ذلك، فانطلق على اللواط.

فأجابوا بأن المفهوم من الظاهر أن الفعل منهما لا من أحدهما.

ومتى قيل : إذا لم يفهم ذلك من قوله والسارق والسارقة، بل دخل فيها السارق من غيرها، فكذلك هاهنا.

فأجابوا بأن الزنا لا يكون إلا بينهما، ومن فعلهما، والسرقة ينفرد بها أحدهما فافترقا.

وهذا ركيك عندنا، وأول ما فيه أن لا يدخل في عمومه الزاني بالمجنونة والصغيرة والمكرهة على الزنا والحربية، إذا لم تعرف أحكام [ ص: 290 ] الإسلام، إلى غير ذلك من المسائل التي لا خلاف في تناول عموم اسم الزنا لها.

ولأنه تعالى إذ قال : الزانية والزاني ، فليس يعني به شخصين فقط، وإنما ذلك للجنس، وإذ كانت الألف واللام لإبانة الجنس، فكأنه ذكر الرجل الزاني مطلقا، وذكر جنس الزانيات، فلا يجب أن يفهم منه زناه بها حتى يخرج منه اللواط، وعلى أن الذي ذكروه لا فرج فيه، فإنه إذا لاط بها مطاوعة، فهي زانية وهو زاني.

نعم : نقول إنه لا يتناول لواط الرجل بالرجل، وهو لا يقدح في المقصود، بعد أن ثبت كون اللواط في الجملة داخلا تحت اسم الزنا، فبطل ما توهموه.

نعم الوطء دون الفرج لا يعد زنا، لا حقيقة لغة ولا شرعا : أما اللغة، فاسم الزنا أطلق حقيقة على الكامل في جنسه، وله مقدمات ووسائل لا يعد زنا حقيقة، وإنما هو مجاورة للزنا أو موصلة إليه.

فإذا ثبت الكلام في الاسم، فقد اختلف الناس في الداخلين تحت هذا الاسم، فقالت الخوارج : الكل داخلون فلا رجم عندهم.

وأثبت غيرهم الرجم ثم اختلفوا، فمنهم من يعمل بالآية عموما ويضم الرجم إلى المحصن بعد الجلد، وأكثر الفقهاء لا يرون ذلك.

فإذا المراد بالآية البكران، فأما الثيبان المحصنان فحدهما الرجم، وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزا ولم يجلده، ولذلك تخصصت الآية بخبر عبادة حيث روى : " والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ".

[ ص: 291 ] ويجوز به استخراج جنس المحصنين من عموم اللفظ، مع أنهم شطر الزناة وأكبر، ومع أن المبالغة في الزجر في اقتضاء ذكر الرجم أولى منها باقتضاء ذكر الجلد، الذي لا يظهر له وقع، بالإضافة إلى الرجم.

التالي السابق


الخدمات العلمية