الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ صنع ]

                                                          صنع : صنعه يصنعه صنعا ، فهو مصنوع وصنع : عمله . وقوله تعالى : صنع الله الذي أتقن كل شيء قال أبو إسحاق : القراءة بالنصب ويجوز الرفع ، فمن نصب فعلى المصدر ؛ لأن قوله تعالى : وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب دليل على الصنعة ، كأنه قال صنع الله ذلك صنعا ، ومن قرأ صنع الله فعلى معنى ذلك صنع الله . واصطنعه : اتخذه . وقوله تعالى : واصطنعتك لنفسي تأويله اخترتك لإقامة حجتي وجعلتك بيني وبين خلقي حتى صرت في الخطاب عني والتبليغ بالمنزلة التي أكون أنا بها لو خاطبتهم واحتججت عليهم ؛ وقال الأزهري : أي ربيتك لخاصة أمري الذي أردته في فرعون وجنوده . وفي حديث آدم : قال لموسى عليهما السلام : أنت كليم الله الذي اصطنعك لنفسه ، قال ابن الأثير : هذا تمثيل لما أعطاه الله من منزلة التقريب والتكريم . والاصطناع : افتعال من الصنيعة ، وهي العطية والكرامة والإحسان . وفي الحديث : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا توقدوا بليل نارا ، ثم قال : أوقدوا واصطنعوا ، فإنه لن يدرك قوم بعدكم مدكم ، ولا صاعكم قوله : اصطنعوا ؛ أي : اتخذوا صنيعا ، يعني طعاما تنفقونه في سبيل الله . ويقال : اصطنع فلان خاتما إذا سأل رجلا أن يصنع له خاتما . روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اصطنع خاتما من ذهب كان يجعل فصه في باطن كفه إذا لبسه ، فصنع الناس ، ثم إنه رمى به أي أمر أن يصنع له ، كما تقول اكتتب أي أمر أن يكتب له ، والطاء بدل من تاء الافتعال لأجل الصاد . واستصنع الشيء : دعا إلى صنعه ؛ وقول أبي ذؤيب :


                                                          إذا ذكرت قتلى بكوساء أشعلت كواهية الأخرات رث صنوعها

                                                          قال ابن سيده : صنوعها جمع لا أعرف له واحدا . والصناعة : حرفة الصانع وعمله الصنعة . والصناعة : ما تستصنع من أمر ؛ ورجل صنع اليد وصناع اليد من قوم صنعى الأيدي وصنع وصنع ، وأما سيبويه ، فقال : لا يكسر صنع استغنوا عنه بالواو والنون . ورجل صنيع اليدين وصنع اليدين بكسر الصاد أي صانع حاذق ، وكذلك رجل صنع اليدين بالتحريك ؛ قال أبو ذؤيب :


                                                          وعليهما مسرودتان قضاهما     داود أو صنع السوابغ تبع

                                                          هذه رواية الأصمعي ، ويروى : صنع السوابغ ، وصنع اليد من قوم صنعي الأيدي وأصناع الأيدي ، وحكى سيبويه الصنع مفردا ، وامرأة صناع اليد أي حاذقة ماهرة بعمل اليدين وتفرد في المرأة من نسوة صنع الأيدي ؛ وفي الصحاح : وامرأة صناع اليدين ، ولا يفرد صناع اليد في المذكر ؛ قال ابن بري : والذي اختاره ثعلب رجل صنع اليد ، وامرأة صناع اليد ، فيجعل صناعا للمرأة بمنزلة كعاب ورداح وحصان ؛ وقال ابن شهاب الهذلي :


                                                          صناع بإشفاها حصان بفرجها     جواد بقوت البطن والعرق زاخر

                                                          وجمع صنع عند سيبويه صنعون لا غير ، وكذلك صنع ، يقال : رجال صنعو اليد ، وجمع صناع صنع ، وقال ابن درستويه : صنع مصدر وصف به مثل دنف وقمن ، والأصل فيه عنده الكسر صنع ليكون بمنزلة دنف وقمن ، وحكى أن فعله صنع يصنع صنعا مثل بطر بطرا ، وحكى غيره أنه يقال رجل صنيع ، وامرأة صنيعة بمعنى صناع ؛ وأنشد لحميد بن ثور :


                                                          أطافت به النسوان بين صنيعة     وبين التي جاءت لكيما تعلما

                                                          وهذا يدل أن اسم الفاعل من صنع يصنع صنيع لا صنع ؛ لأنه لم يسمع صنع ؛ هذا جميعه كلام ابن بري . وفي المثل : لا تعدم صناع ؛ ثلة الثلة : الصوف والشعر والوبر . وورد في الحديث : الأمة غير الصناع . قال ابن جني : قولهم رجل صنع اليد ، وامرأة صناع اليد دليل على مشابهة حرف المد قبل الطرف لتاء التأنيث فأغنت الألف قبل الطرف مغنى التاء التي كانت تجب في صنعة لو جاء على حكم نظيره نحو حسن وحسنة ؛ قال ابن السكيت : امرأة صناع ؛ إذا كانت رقيقة اليدين تسوي الأشافي وتخرز الدلاء وتفريها ، وامرأة صناع : حاذقة بالعمل . ورجل صنع إذا أفردت ، فهي مفتوحة محركة ، ورجل صنع اليد وصنع اليدين مكسور الصاد إذا أضيفت ؛ قال الشاعر :


                                                          صنع اليدين بحيث يكوى الأصيد

                                                          وقال آخر :


                                                          أنبل عدوان كلها صنعا

                                                          وفي حديث عمر : حين جرح ، قال لابن عباس : انظر من قتلني ، فقال : غلام المغيرة بن شعبة ، قال : الصنع ؟ قال : نعم . يقال : رجل صنع ، وامرأة صناع إذا كان لهما صنعة يعملانها بأيديهما ويكسبان بها . ويقال : امرأتان صناعان في التثنية ؛ قال رؤبة :


                                                          إما تري دهري حناني حفضا     أطر الصناعين العريش القعضا

                                                          ونسوة صنع مثل قذال وقذل . قال الإيادي : وسمعت شمرا يقول رجل صنع وقوم صنعون بسكون النون . ورجل صنع اللسان ولسان صنع ، يقال ذلك للشاعر ولكل بين وهو على المثل ؛ قال حسان بن ثابت :

                                                          [ ص: 292 ]

                                                          أهدى لهم مدحي قلب يؤازره     فيما أراد لسان حائك صنع

                                                          وقال الراجز في صفة المرأة :


                                                          وهي صناع باللسان واليد

                                                          وأصنع الرجل إذا أعان أخرق . والمصنعة الدعوة يتخذها الرجل ويدعو إخوانه إليها ، قال الراعي :


                                                          ومصنعة هنيد أعنت فيها

                                                          قال الأصمعي : يعني مدعاة . وصنعة الفرس : حسن القيام عليه . وصنع الفرس يصنعه صنعا صنعة ، وهو فرس صنيع : قام عليه . وفرس صنيع للأنثى بغير هاء ، وأرى اللحياني خص به الأنثى من الخيل ، وقال عدي بن زيد :


                                                          فنقلنا صنعه حتى شتا     ناعم البال لجوجا في السنن

                                                          وقوله تعالى : ولتصنع على عيني قيل : معناه لتغذى ؛ قال الأزهري : معناه لتربى بمرأى مني . يقال : صنع فلان جاريته إذا رباها ، وصنع فرسه إذا قام بعلفه وتسمينه ، وقال الليث : صنع فرسه بالتخفيف ، وصنع جاريته بالتشديد ؛ لأن تصنيع الجارية لا يكون إلا بأشياء كثيرة وعلاج ؛ قال الأزهري : وغير الليث يجيز صنع جاريته بالتخفيف ؛ ومنه قوله تعالى : ولتصنع على عيني . وتصنعت المرأة إذا صنعت نفسها . وقوم صناعية أي يصنعون المال ويسمنونه ؛ قال عامر بن الطفيل :


                                                          سود صناعية إذا ما أوردوا     صدرت عتومهم ولما تحلب

                                                          الأزهري : صناعية الذين يصنعون المال ويسمنون فصلانهم ، ولا يسقون ألبان إبلهم الأضياف ، وقد ذكرت الأبيات كلها في ترجمة صلمع . وفرس مصانع : وهو الذي لا يعطيك جميع ما عنده من السير له صون يصونه ، فهو يصانعك ببذله سيره . والصنيع : الثوب الجيد النقي ؛ وقول نافع بن لقيط الفقعسي ؛ أنشده ابن الأعرابي :


                                                          مرط القذاذ فليس فيه مصنع     لا الريش ينفعه ولا التعقيب

                                                          فسره فقال : مصنع أي ما فيه مستملح . والتصنع : تكلف الصلاح وليس به . والتصنع : تكلف حسن السمت وإظهاره والتزين به والباطن مدخول . والصنع : الحوض ، وقيل : شبه الصهريج يتخذ للماء ، وقيل : خشبة يحبس بها الماء وتمسكه حينا ، والجمع من ذلك أصناع . والصناعة : كالصنع التي هي الخشبة . والمصنعة والمصنعة : كالصنع الذي هو الحوض أو شبه الصهريج يجمع فيه ماء المطر . والمصانع أيضا : ما يصنعه الناس من الآبار والأبنية وغيرها ؛ قال لبيد :


                                                          بلينا وما تبلى النجوم الطوالع     وتبقى الديار بعدنا والمصانع

                                                          قال الأزهري : ويقال للقصور أيضا مصانع ؛ وأما قول الشاعر أنشده ابن الأعرابي :


                                                          لا أحب المثدنات اللواتي     في المصانيع لا ينين اطلاعا

                                                          فقد يجوز أن يعنى بها جمع مصنعة وزاد الياء للضرورة ، كما قال :


                                                          نفي الدراهيم تنقاد الصياريف

                                                          وقد يجوز أن يكون جمع مصنوع ومصنوعة كمشئوم ومشائيم ومكسور ومكاسير . وفي التنزيل : وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون المصانع في قول بعض المفسرين : الأبنية ، وقيل : هي أحباس تتخذ للماء ، واحدها مصنعة ومصنع ، وقيل : هي ما أخذ للماء . قال الأزهري : سمعت العرب تسمي أحباس الماء الأصناع والصنوع ، واحدها صنع ؛ وروى أبو عبيد عن أبي عمرو ، قال : الحبس مثل المصنعة والزلف المصانع ؛ قال الأصمعي : وهي مساكات لماء السماء يحتفرها الناس فيملؤها ماء السماء يشربونها . وقال الأصمعي : العرب تسمي القرى مصانع ، واحدتها مصنعة ؛ قال ابن مقبل :


                                                          أصوات نسوان أنباط بمصنعة     بجدن للنوح واجتبن التبابينا

                                                          والمصنعة والمصانع : الحصون ؛ قال ابن بري : شاهده قول البعيث :


                                                          بنى زياد لذكر الله مصنعة     من الحجارة لم ترفع من الطين

                                                          وفي الحديث : من بلغ الصنع بسهم الصنع بالكسر : الموضع يتخذ للماء ، وجمعه أصناع ، وقيل : أراد بالصنع ههنا الحصن . والمصانع : مواضع تعزل للنحل منتبذة عن البيوت ، واحدتها مصنعة ؛ حكاه أبو حنيفة . والصنع : الرزق . والصنع بالضم : مصدر قولك صنع إليه معروفا تقول : صنع إليه عرفا صنعا واصطنعه ، كلاهما : قدمه ، وصنع به صنيعا قبيحا أي فعل . والصنيعة : ما اصطنع من خير . والصنيعة : ما أعطيته وأسديته من معروف أو يد إلى إنسان تصطنعه بها ، وجمعها الصنائع ؛ قال الشاعر :


                                                          إن الصنيعة لا تكون صنيعة     حتى يصاب بها طريق المصنع

                                                          واصطنعت عند فلان صنيعة ، وفلان صنيعة فلان وصنيع فلان إذا اصطنعه وأدبه وخرجه ورباه . وصانعه : داراه ولينه وداهنه . وفي حديث جابر : كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده أي : يداريه . والمصانعة : أن تصنع له شيئا ليصنع لك شيئا آخر ، وهي مفاعلة من الصنع . وصانع الوالي : رشاه . والمصانعة : الرشوة . وفي المثل : من صانع بالمال لم يحتشم من طلب الحاجة . وصانعه عن الشيء : خادعه عنه . ويقال : صانعت فلانا أي رافقته . والصنع : السود ؛ قال المرار يصف الإبل :


                                                          وجاءت وركبانها كالشروب     وسائقها مثل صنع الشواء

                                                          يعني سود الألوان ، وقيل : الصنع الشواء نفسه ؛ عن ابن الأعرابي . [ ص: 293 ] وكل ما صنع فيه ، فهو صنع مثل السفرة أو غيرها . وسيف صنيع : مجرب مجلو ، قال عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاصي يمدح معاوية :


                                                          أتتك العيس تنفح في براها     تكشف عن مناكبها القطوع
                                                          بأبيض من أمية مضرحي     كأن جبينه سيف صنيع وسهم صنيع

                                                          كذلك ، والجمع صنع ؛ قال صخر الغي :


                                                          وارموهم بالصنع المحشوره

                                                          وصنعاء ممدودة : بلدة ، وقيل : هي قصبة اليمن ؛ فأما قوله :


                                                          لا بد من صنعا وإن طال السفر

                                                          فإنما قصر للضرورة ، والإضافة إليه صنعاني على غير قياس ، كما قالوا في النسبة إلى حران حرناني ، وإلى مانا وعانا مناني وعناني ، والنون فيه بدل من الهمزة في صنعاء ؛ حكاه سيبويه ؛ قال ابن جني : ومن حذاق أصحابنا من يذهب إلى أن النون في صنعاني ، إنما هي بدل من الواو التي تبدل من همزة التأنيث في النسب ، وأن الأصل صنعاوي ، وأن النون هناك بدل من هذه الواو كما أبدلت الواو من النون في قولك : من وافد ، وإن وقفت وقفت ونحو ذلك ، قال : وكيف تصرفت الحال فالنون بدل من بدل من الهمزة ، قال : وإنما ذهب من ذهب إلى هذا لأنه لم ير النون أبدلت من الهمزة في غير هذا ، قال : وكان يحتج في قولهم إن نون فعلان بدل من همزة فعلاء فيقول : ليس غرضهم هنا البدل الذي هو نحو قولهم في ذئب ذيب ، وفي جؤنة جونة ، وإنما يريدون أن النون تعاقب في هذا الموضع الهمزة كما تعاقب لام المعرفة التنوين أي لا تجتمع معه ، فلما لم تجامعه قيل إنها بدل منه ، وكذلك النون والهمزة . والأصناع : موضع ؛ قال عمرو بن قميئة :


                                                          وضعت لدى الأصناع ضاحية     فهي السيوب وحطت العجل

                                                          وقولهم : ما صنعت وأباك ، تقديره مع أبيك ؛ لأن مع والواو جميعا لما كانا للاشتراك والمصاحبة أقيم أحدهما مقام الآخر ، وإنما نصب لقبح العطف على المضمر المرفوع من غير توكيد ، فإن وكدته رفعت وقلت : ما صنعت أنت وأبوك ؟ وأما الذي في حديث سعد : لو أن لأحدكم وادي مال ثم مر على سبعة أسهم صنع لكلفته نفسه أن ينزل فيأخذها قال ابن الأثير : كذا قال صنع قاله الحربي ، وأظنه صيغة أي مستوية من عمل رجل واحد . وفي الحديث : إذا لم تستحي فاصنع ما شئت ؛ قال جرير : معناه أن يريد الرجل أن يعمل الخير فيدعه حياء من الناس كأنه يخاف مذهب الرياء يقول فلا يمنعنك الحياء من المضي لما أردت ؛ قال أبو عبيد : والذي ذهب إليه جرير معنى صحيح في مذهبه ولكن الحديث لا تدل سياقته ولا لفظه على هذا التفسير ، قال : ووجهه عندي أنه أراد بقوله : إذا لم تستحي فاصنع ما شئت ، إنما هو من لم يستح صنع ما شاء على جهة الذم لترك الحياء ولم يرد بقوله فاصنع ما شئت أن يأمره بذلك أمرا ، ولكنه أمر معناه الخبر كقوله صلى الله عليه وسلم : من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ، والذي يراد من الحديث أنه حث على الحياء وأمر به وعاب تركه ، وقيل : هو على الوعيد والتهديد اصنع ما شئت فإن الله مجازيك ، وكقوله تعالى : اعملوا ما شئتم وذكر ذلك كله مستوفى في موضعه ؛ وأنشد :


                                                          إذا لم تخش عاقبة الليالي     ولم تستحي فاصنع ما تشاء

                                                          وهو كقوله تعالى : فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر . وقال ابن الأثير في ترجمة ضيع : وفي الحديث تعين ضائعا أي ذا ضياع من فقر أو عيال أو حال قصر عن القيام بها ، قال : ورواه بعضهم بالصاد المهملة والنون ، وقيل : إنه هو الصواب ، وقيل هو في حديث بالمهملة ، وفي آخر بالمعجمة ، قال : وكلاهما صواب في المعنى .

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية