الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
أما الدرجة الرابعة وهو ورع الصديقين ، فالحلال عندهم كل ما لا تتقدم في أسبابه معصية ولا يستعان به على معصية ولا يقصد منه في الحال والمآل قضاء وطر بل يتناول لله تعالى فقط وللتقوي على عبادته واستبقاء الحياة لأجله وهؤلاء هم الذين يرون كل ما ليس لله حراما امتثالا لقوله تعالى قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وهذه رتبة الموحدين المتجردين عن حظوظ أنفسهم المنفردين لله تعالى بالقصد ولا شك في أن من يتورع عما يوصل إليه أو يستعان عليه بمعصية ليتورع ، عما يقترن بسبب اكتسابه معصية أو كراهية ، فمن ذلك ما روي عن يحيى بن كثير أنه شرب الدواء فقالت له امرأته لو تمشيت في الدار قليلا حتى يعمل الدواء فقال : هذه مشية لا أعرفها ، وأنا أحاسب نفسي منذ ثلاثين سنة فكأنه لم تحضره نية في هذه المشية تتعلق بالدين فلم يجز الإقدام عليها .

وعن سري رحمه الله أنه قال : انتهيت إلى حشيش في جبل وماء يخرج منه فتناولت من الحشيش وشربت من الماء وقلت في نفسي : إن كنت قد أكلت يوما حلالا طيبا ، فهو هذا اليوم فهتف بي هاتف إن القوة التي أوصلتك إلى هذا الموضع من أين هي ، فرجعت وندمت .

التالي السابق


( أما الدرجة الرابعة وهي ورع الصديقين، فالحلال المطلق عندهم كل ما لا يتقدم في) مباشرة (أسبابه معصية) لله عز وجل، وهي مخالفة أمر من أوامره، (ولا يستعان به على معصية) لله عز وجل، (ولا يقصد منه في الحال) الحاضر (والمآل) المتوقع (قضاء وطر) نفساني، (بل) إنما (يتناول) منه (لله) عز وجل (فقط وللتقوى) والاستعانة (على عبادته) ومعرفته (واستبقاء الحياة) ، أي: معها، (لأجله) أي: لأجل التقوى، وإليه يشير قوله صلى الله عليه وسلم: "حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه" . وفي القوت: قال بعضهم: الحلال ما لم يعص الله تعالى في أخذه ، وقال آخرون: ما لم يعص الله تعالى في أوله ولم ينس في آخره، وذكر عند تناوله وشكر بعد فراغه، وكان سهل يقول: الحلال هو العلم ولو فتح العبد فمه إلى السماء وشرب القطر ثم تقوى بذلك على معصية، أو لم يطع الله بذلك القوى لم يكن ذلك حلالا، وقال بعض الموحدين: لا يكون حلالا حتى لا تشهد فيه سوى الله عز وجل وحده، ومن أشرك في رزق الله تعالى العباد فذلك شبهة، (وهؤلاء هم الذين يرون) أي: يعتقدون، (كل ما ليس لله حراما) على أنفسهم (امتثالا لقوله تعالى) يخاطب حبيبه صلى الله عليه وسلم: ( قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ) ، فيرون أن ما سوى الله باطل ولعب في خوض، لا يعني (وهذه رتبة الموحدين) لله بالتوحيد الخالص (المتحردين عن حظوظ أنفسهم) المتبرئين عنها بالكلية (المنفردين لله بالقصد) القائمين بالله في كل قصد، (ولا شك في أن من يتورع عما يوصل إليه بمعصية أو يستعان عليه بمعصية، فيتورع، لا شك عما يقترن بسبب اكتسابه معصية أو كراهية، فمن ذلك ما روي عن يحيى بن يحيى) بن بكر بن عبد الرحمن بن يحيى بن حماد التيمي الحنظلي أبي زكريا النيسابوري، قال أحمد : ما أخرجت خراسان بعد ابن المبارك مثله، وقال أبو داود عن أحمد : ما رأيت مثل يحيى بن يحيى ، ولا أرى يحيى مثل نفسه، وقال محمد بن أسلم الطوسي : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: عمن أكتب؟ قال: عن يحيى بن يحيى ، وقال العباس بن مصعب المروزي : يحيى بن يحيى أصله مروي، وهو من بني تميم من أنفسهم، وكان ثقة يرجع إلى زهد وصلاح. وقال ابن حبان : كان من سادات أهل زمانه علما ودينا وفضلا ونسكا وإتقانا، وأوصى بثياب بدنه لأحمد بن حنبل ، فكان أحمد يحضر الجماعات في تلك الثياب، وقال غيره عن زكريا بن يحيى بن يحيى : أوصى أبي بثياب جسده لأحمد ، فأتيته بها فقلت: إن أبي أوصى بمتاعه لك، قال: ائت به، فأتيته بها في منديل فنظر إليها فقال: ليس هذا من لباسي ثم أخذ ثوبا واحدا منه ورد الباقي .

وفي القوت: قال المروذي : سمعت أبا عبد الله يقول: كان يحيى بن يحيى أوصى إلي بجبته، فجاءني ابنه فقال لي: فقلت: رجل صالح قد أطاع الله تبارك وتعالى فيها أتبرك بها، ولد سنة 124، وتوفي سنة 224، (أنه شرب دواء) أي: مسهلا (فقالت له امرأة) هي أم زكريا بن يحيى : (لو مشيت في الدار قليلا حتى يعمل منك الدواء، قال: هذه مشية لا أعرفها، وأنا أحاسب نفسي منذ ثلاثين سنة) ، ولفظ القوت: حدثت عن بعض العلماء أن يحيى بن يحيى قالت [ ص: 30 ] له امرأته: شربت دواء لو قمت فترددت في الدار، فقال: ما أدري ما هذه المشية، أنا أحاسب نفسي منذ أربعين سنة اهـ. (فكأنه لم تحضره نية في هذه المشية تتعلق بالدين فلم يجز الإقدام عليها) تورعا، (وعن سري) بن المفلس السقطي رحمه الله تعالى (قال: انتهيت) ذات يوم في سفري (إلى حشيش في جبل وماء يخرج منه) ، ولفظ القوت: إلى نبات من الأرض عنده غدير ماء (فتناولت من الحشيش وشربت من الماء) ، ولفظ القوت: وكنت جائعا فأكلت من ذلك الحشيش، وشربت من الغدير بكفي، (وقلت في نفسي: إن كنت ذات يوم قد أكلت يوما حلالا طيبا، فهو هذا اليوم) ، ولفظ القوت: ثم استلقيت على ظهري، فخطر بقلبي إن كنت ذات يوم أكلت حلالا فهذا اليوم، (فهتف بي هاتف) يا سري ، (إن القوة) ولفظ القوت: زعمت أنك أكلت حلالا، فالقوة (التي أوصلتك إلى هذا الموضع يجب أن تبحث من أين هي، فرجعت وندمت) ، ولفظ القوت: فاستغفرت الله تعالى مما وقع في قلبي .




الخدمات العلمية